تطبيع فتح
لقد خَطَت «فتح»، الحركة الفدائية الرائدة داخل منظمة التحرير الفلسطينية، خطوة واحدة نحو التحول إلى حزب سياسي طبيعي. فقد اختتمت «فتح» أخيراً مؤتمرها السادس الذي انعقد للمرة الأولى في الأراضي المحتلة، وهو ما يعني أن إسرائيل سمحت بدخول الفدائيين السابقين من لبنان والأردن. ويبدو أن المؤتمر نجح في إعادة توحيد وتنشيط الحركة، التي ظلت تعاني منذ وفاة مؤسسها وزعيهما ياسر عرفات.
في إطار المؤتمر، صوّت أكثر من 2000 مندوب يمثلون فدائيي «فتح» السابقين وناشطي الانتفاضة على مواصلة أشكال المقاومة كافة من أجل تحرير فلسطين. غير أن تعبير «المقاومة المسلحة» غاب عن كل الوثائق التي وافق عليها المشاركون في المؤتمر. ولقد أوضح محمود عباس- الذي انتحب بالإجماع زعيماً لـ»فتح» وقائداً أعلى للقوات المسلحة- أنه رغم بقاء الخيارات كلها متاحة لإنهاء الاحتلال فإن المفاوضات ماتزال تشكل الخيار المفضل. وفي حين أخذ البعض (مثل وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك) حديث بعض المندوبين عن المقاومة على محمل الجد، فقد أكد نبيل عمرو المتحدث باسم الحركة رسمياً لكل الجهات المعنية أن «فتح» «ملتزمة بالحل السلمي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي».إن أي منظمة لا توفر الآليات الديمقراطية اللازمة للتغيير والتجديد تميل إلى الإصابة بالشيخوخة والرتابة وعدم الفعالية. ولقد تجلت تأثيرات الشيخوخة والإنهاك في أوضح صورها في الأعوام القليلة الماضية، بعد أن خسرت «فتح» الانتخابات التشريعية لمصلحة «حماس» للمرة الأولى في تاريخها، ثم خسرت وجودها في قطاع غزة.إن الدلائل التي تشير إلى أن حركة «فتح» تتجه نحو التحول إلى حزب سياسي طبيعي وفيرة. فقد اختفت الحلل العسكرية وظهرت حلل رجال الأعمال وبطاقات الهوية اللائقة للمندوبين. وفي محل القرارات غير المعلنة والتوجيهات الصادرة من أعلى إلى أسفل، رأينا عملية ديمقراطية شارك فيها الجميع حيث سقط العديد من قادة «فتح» التاريخيين على جانبي الطريق، الأمر الذي أفسح المجال أمام قادة جدد من الشباب الذي يتمتعون بالشعبية في الداخل. أما السجناء الذين تحتجزهم إسرائيل في سجونها فقد مُـنِحوا عشرين مقعداً في المجلس الثوري الموسع الذي أصبح مؤلفاً من مائة مقعد. وكان مروان البرغوثي، وهو أحد زعماء الانتفاضة السجناء، من بين أكثر زعماء اللجنة المركزية الجدد حصولاً على الأصوات في الانتخابات (اللجنة المركزية هي الهيئة التنفيذية للحركة).لا شك أن العشرين عاماً التي مرت منذ انعقاد آخر مؤتمر خلقت فراغاً ضخماً، ولكن هذا الفراغ سرعان ما مُـلئ بناشطي الانتفاضة المخضرمين وليس الفدائيين المقاتلين على الطراز القديم الذين هيمنوا على الحركة منذ تأسيسها. وكان أربعة عشر من الأعضاء التسعة عشر المنتخبين لعضوية اللجنة المركزية من المرشحين لأول مرة لخوض الانتخابات، وأغلبهم يمثلون قيادة انتفاضة 1987 في الأراضي المحتلة. وكان هذا التحول العمري والجغرافي لعضوية حركة «فتح» سبباً في فشل بعض زعماء الحركة التاريخيين، من أمثال أحمد قريع وانتصار الوزير (أرملة الراحل أبو جهاد)، في الفوز بالأصوات.فضلاً عن ذلك فإن انعقاد المؤتمر في فلسطين أنهى دور العديد من زعماء حركة «فتح» الذين عارضوا اتفاقيات أوسلو، مثل فاروق القدومي ومحمود جهاد. كما جاء تهميش رجال مثل القدومي، والذين اتهموا عباس ومحمد دحلان في عشية انعقاد المؤتمر بمساعدة إسرائيل في تسميم عرفات، ليساعد في مباعدة المسافات بين حركة «فتح» وتحالفها لمرة واحدة مع بلدان عربية متشددة مثل سوريا وليبيا.وفي حين كان الحرس القديم مضطراً إلى إيجاد نوع من التوازن في التعامل مع البلدان العربية المختلفة التي دعمت منظمة التحرير الفلسطينية، فإن الحرس الجديد لن يجد مفراً من البحث عن حلول عملية لخصوماتهم مع منافسيهم في «حماس» إن كانوا راغبين في التوصل إلى اتفاق تسوية قابل للتطبيق مع إسرائيل. والحقيقة أن الآراء تتباين كثيراً في هذا السياق، حيث يدعو البعض إلى اتخاذ موقف متشدد من «حماس» ويدافع غيرهم عن تبني توجه أكثر ليناً في التعامل معها. وتواجه القيادة الجديدة لحركة «حماس» تحدياً جديداً يتلخص في كيفية التعامل مع الازدواجية المتمثلة في تولي المناصب الحزبية والمناصب الوزارية في السلطة الفلسطينية في الوقت نفسه. فيدعو البعض زعماء «فتح» إلى الامتناع عن تولي المناصب الوزارية، بينما لا يرى آخرون سبباً يمنع أي شخص من تولي قيادة الحزب والحكومة في وقت واحد.في خطاب التسلم، أشار عباس إلى قادة الانتفاضة الأولى، لافتاً نظر المشاركين في المؤتمر إلى إسهامهم في رسم المبادئ التوجيهية التي تحولت فيما بعد إلى برنامج سياسي للحركة. والآن أصبح زعماء مثل البرغوثي، ورئيس جهاز الأمن الوقائي السابق جبريل الرجوب، ودحلان من غزة، في مقعد قيادة حركة «فتح».ولقد ألقى دحلان، الذي اتهمه البعض بتحمل المسؤولية عن خسارة غزة لمصلحة «حماس»، خطاباً قوياً اتهم فيه قيادات «فتح» السابقة بخسارة غزة قبل وقت طويل من سقوطها فعلياً في قبضة «حماس» في يونيو 2007. ولقد أوضح دحلان بالتفصيل كيف تجاهلت قيادات «فتح» السابقة تحذيراته والتماساته المتكررة التي رفعها إلى أعضاء اللجنة المركزية للقدوم إلى غزة لكي يطلعوا بأنفسهم على الموقف على الأرض.كما وجه مؤتمر «فتح» ضربة قوية للفساد وإساءة استغلال السلطة اللذين ابتليت بهما الحركة في الأعوام الأخيرة، خصوصاً منذ تأسيس السلطة الفلسطينية. وأصر المتحدثون الواحد تلو الآخر على أن الضعف الذي ألـمَّ بالحركة كان ناجماً عن حقيقة مفادها أن زعماءها استسلموا للإغراءات التي جاءت مصاحبة للمناصب الحكومية. وعلى هذا فقد خسر بعض القادة السابقين لحركة «فتح» مناصبهم القيادية في الحركة، ومنهم على سبيل المثال أحمد قريع (أبو علاء)، رئيس الوزراء الأسبق وكبير المفاوضين الذي اتُـهِم بامتلاك أسهم في شركة فلسطينية كانت تورد الأسمنت لإسرائيل لبناء الجدار البغيض الذي يمر عبر الأراضي الفلسطينية.إن حركة «فتح» مازال أمامها شوط طويل قبل أن تتحول إلى حزب سياسي تام النضوج. ولقد اتفق المندوبون بأغلبية ساحقة على أن الحركة لابد أن تظل منفتحة على خيار العودة إلى العمل السري إذا فشلت مفاوضات إقامة الدولة، بينما أبدوا استعدادهم الواضح للتحول إلى حزب سياسي في حالة ولادة الدولة الفلسطينية. ورغم ذلك فإن نتائج مؤتمر حركة «فتح» السادس تعكس انحيازاً واضحاً لمصلحة التحول إلى حزب سياسي وليس البقاء كحركة مقاومة مسلحة.* داوود كتاب، أستاذ في جامعة برينستون سابقا ومؤسس ومدير معهد الإعلام العصري في جامعة القدس في رام الله، وهو ناشط قيادي من أجل حرية الإعلام في الشرق الأوسط.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»