العلمانية والقومية والاستعمار... أسئلة مفتوحة
«معاداة الإكليروس ليست بضاعة للتصدير الخارجي». هذه عبارة مشهورة لغامبيتا، السياسي الفرنسي من ثمانينيات القرن التاسع عشر، أيام عز الاندفاع الامبريالي الفرنسي. بالعكس، في الخارج، أظهرت فرنسا أكثر من غيرها من القوى الاستعمارية الغربية وجها كاثوليكيا، يفيض خيرية وغيرية وغرورا. هذا بينما كانت أكثر من غيرها من القوى الغربية معاداة للإكليروس داخل فرنسا. وهي المعاداة التي بلغت ذروتها في إصدار قانون العلمانية عام 1905، القانون الذي ينسب إلى جهود السياسي الفرنسي جول فيري المعروف بالمناسبة بحماسته لاستعمار كل من مدغشقر وتونس وفيتنام، فـ«للأعراق العليا حق على الأعراق السفلى»، مثل السود في إفريقيا الاستوائية، التي «لم يكتب إعلان حقوق الإنسان لأجلها». بالمقابل أظهرت بريطانيا التي تبز فرنسا في السباق الاستعماري وجها براغماتيا في الخارج ووجها أقل تشددا ضد الدين في الداخل البريطاني.
هل يسوغ ذلك الاعتقاد بأن ثمة ترابطا جوهريا بين العلمانية والامبريالية على نحو ما يبدو أن المرحوم عبدالوهاب المسيري كان يؤكد عبر مفهومه لـ«العلمانية الشاملة»؟ ولعلنا لا نبعد عن مقاصد المسيري إن قلنا إنه يريد بالعلمانية الشاملة العلمانية التي تجمع بين النضالية والشمول، فتصبو أن تكون دينا ودولة. وإن كان ثمة بلد في العالم عرفها فهو فرنسا، ثم اقتبستها منها في منطقتنا تركيا الكمالية. لا داعي للإجابة عن السؤال، نطرحه مادة للتفكير فحسب. ونلاحظ في هذا السياق أن في أصل الامبريالية والعلمانية معا المبدأ القومي الذي أخذ في فرنسا شكلا ثوريا ورساليا وتوسعيا، بينما اقترنت القومية في إنكلترا، وقد كانت توسعية واستعمارية أيضا، بدرجة أعلى من الاستمرارية التاريخية والبراغماتية والليبرالية.لكن فيما وراء اختلاف شكلي الاستعمار والنظام السياسي الثقافي في البلدين، ثمة بلا شك تحول حاسم نحو علمنة السياسية والدولة والثقافة والقانون، اختلفت بينهما أشكاله وصيغه ونبراته فحسب. وهو ما ينطبق على بلدان أوروبا الغربية الأخرى أيضا. لقد تحولت السيادة نحو الدولة القومية ونزعت من الدين. ويقتصر اختلاف البلدان الأوروبية على موقع الدين الفاقد للسيادة: هل هو مفصول عن السياسة أيضا، و«مرمي» في «المجتمع المدني» ليقوم بأمر نفسه على نحو ما هي الحال في فرنسا، أم أنه يتدخل في السياسة ولكن تحت مظلة السيادة العلمانية على نحو ما هي الحال في الدول الأوروبية الأخرى جميعا. في الحالين الفصل بين الدين والسيادة راسخ. لكن أيا يكن شكل العلاقة بين الدولة والدين في الغرب، فإن القوى الاستعمارية جميعا شاركت غامبيتا والاستعمار الفرنسي مبدأ عدم تصدير معاداة الإكليروس. هذا إن لم نقل أنها كانت تصدر إلى الخارج بضاعة كانت ترفض عرضها في الداخل. بريطانيا هي الاستثناء في هذا الشأن الذي أظهرت فرنسا وإيطاليا بخاصة حماسة رسولية متميزة فيه. في المنظار التاريخي العام إذن قد يمكن القول إن أوروبا الغربية أضحت علمانية وقت صارت سلطتها عالمية، أي أن هناك ضربا من الاستمرارية بين تاريخها قبل القومي وقبل العلماني من جهة وتاريخها الاستعماري من جهة ثانية؛ بين ماضيها وخارجها. هل الاستمرارية هذه شرط للعلمنة في الداخل؟ هل إقصاء الماضي إلى الخارج شرط لتوحيد الداخل والحاضر في العلمانية؟ هذا أيضا سؤال للتفكير، وإن كان يتعين التشكك دوما في أي علاقات حتمية وأحادية الاتجاه بين الأمرين. ترى إلى أي حد تسوغ لنا الاستمرارية المشار إليها صوغ مبدأ عام يقضي بأن المراكز الحضارية الدينامية تقصي إشكال تطورها الفائتة أو المتجاوزة إلى خارجها، ما يوفر لها شبابا متجددا وداخلا فسيحا متسعا؟ إن الدينامية هي في آن طاقة فتح وتوسع واختراق وتجاوز و«تدمير خلاق» (جوزيف شومبيتر) و«رفع» و«نسخ» و«تركيب» (بالمعنى الهيغلي للكلمات الثلاثة الأخيرة)، وصيغة توازن (متحرك وقلق) يقوم عليه استقرار المجتمعات المعنية ورفاهها وتقدمها. وهي سمة جوهرية للرأسمالية حيث يلتقي التوسع على حساب الطبيعة مع إرادة السيطرة على مجتمعات وثقافات غريبة. فإذا صح أن الغرب الفاوستي الحيوي النشط يسلخ أشكال تطوره السياسية والفكرية الماضية نحو خارجه على نحو ما تسلخ الحية جلدها كي تثابر على نموها «وتقدمها»، جاز لنا أن نتساءل عن موقع كل الماضي والخارج في تكوين الغرب والثقافة الغربية: هل يفر الغرب من ماضيه بسعيه للسيطرة على العالم، أم هو بالأحرى يسعى إلى لقائه؟ وهل تكون علوم «إنسانية» غربية كثيرة، الإثنولوجيا والدين المقارن، فضلا عن «الاستشراق»، وفنون وآداب وبنية للشخصية، ممكنة لولا «الامبراطورية» إذن؟ نتساءل ولا نجيب. نعرف إجابة إدوارد سعيد. لكن إذا كان تصدير الماضي إلى الخارج أحد شروط التقدم الغربي أو تعريفا لتاريخيته، ماذا يكون تأثير استقبال ماضي الآخرين على بلدان (كانت) تشغل الوقع الأضعف في العلاقة الاستعمارية؟ هل تعيش حاضرا مستمرا هو مقلوب التاريخ التقدمي للبلدان الأقوى؟ هذه تتعرى من الدين ونسفر إلى العالم والمستقبل، وتلك تسير القهقرى نحو الماضي والدين؟ وبقدر ما أن الاستعمار حالة انكشاف تام وتدهور غير معدل للسيطرة على المصير، هل يكون التدثر بالدين حصيلة له، وجهدا لاستعادة السيطرة على المصير؟ أعني محاولة للإمساك بالنفس والسيطرة على شروط الحياة المنفلتة من الأيدي والعقول؟ جهدا للتغلب على الاغتراب في تاريخ نجدنا منه منفيين؟ ألا يقوض ذلك إن صح فرص العلمنة؟ أو ألا تحتاج العلمنة في مثل هذه الشروط إلى معجزة؟ نتساءل أيضا ولا نضمر إجابة. * كاتب سوريكتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء