بعد غياب فؤاد زكريا أحد أهم رموز الثقافة العربية، قبل أسابيع قليلة، يصيبنا فقد المفكر الكبير محمد عابد الجابري بنوع من الأسى والإحباط، في وقت نحن بأمسِّ الحاجة إلى عقول أثرت عقولنا واهتمت بإعادة صياغة العقل العربي في محاولة جادة لإخراجه من حياته الماضوية الى المستقبل أو مشارف الحاضر على أقرب تقدير.

Ad

ورغم اختلاف المفكرَين الكبيرَين في طرح رؤيتيهما حول السبيل الى ذلك، فإنهما اتفقا على أننا نعيش تحت وطأة الماضي وبمعزل بعيد عن الفكر المعاصر.

ما تباين فيه المفكران هو المنهج الذي سلكاه في محاولة تحرير العقل العربي، فزكريا كان علمانيا بحتا، بينما اختط الجابري لنفسه طريقا شائكا في محاولته لتجديد العقل العربي، وما اتفقت عليه العامة ورموزها الثقافية هو التشكيك والتكفير في المذهبين، ويبدو أن العتمة التي نعيشها كانت أكثر كثافة من مقاومة أضواء خافتة هنا وهناك.

ولسنا في حاجة الى التذكير بأننا شعوب استهلاكية، ليس فقط في ما يخص الثورة التقنية ومنتجاتها، لكن أيضا في ما يخص الفكر ومخرجاته.

حاول الجابري نقد العقل العربي من داخله والدخول الى المناطق الوعرة، محاولا جاهدا تجديد النظرة الى الماضي الذي يسيطر على فكرنا والتركيز على اختلاف عصرنا الحاضر الذي نعيشه عن العصور الماضوية التي نستقي منها فلسفتنا الحياتية، والتي أخرجت لنا أشكالا من التمايزات الفكرية السلفية والنهضوية والعلمانية والقومية بناءً على المصلحة الآنية للمفكر، في محاولة لرفض الآخر وتكريس الآنا، محاولة رفض الغرب كليا أو الالتصاق به كليا، وفي الحالين ابتعد الغرب عن الشرق واتسعت الهوة بين التطور الغربي والتراجع العربي، عوضا عن التقارب بين العالمين، وأكثر من ذلك شهد العقل العربي صراعا إيديولوجيا بين طوائفه المتفرقة بلغ نزف الدم العربي بأيادٍ عربية.

ومما لا شك فيه أن الجابري كان صداميا في فكره وحاول أن يكون مشروعا قائما بديلا عن كل الفلسفات المناهضة له، ولم يكن أعداؤه هم السلفيين فقط، بل كثيرا من العلمانيين الذي لم يلتقوا معه، وهو صدام كان لشخصية الجابري طرف في تأصيله.    

زار الجابري الكويت في الثمانينيات لإلقاء محاضرة في قسم الفلسفة، والذي كان يضم مجموعة كبيرة من مفكري الوطن العربي، منهم عبدالفتاح إمام وعبدالغفار مكاوي وأحمد الربعي ويرأسهم فؤاد زكريا، وكان الجابري ضخم البنية ويتحدث بثقة مفرطة، وفي نهاية المحاضرة سأله أحد الأساتذة في قسم التاريخ، لا أجد مبررا لذكر اسمه، سؤالاً عن جزئية من المحاضرة فاستشاط الجابري غضبا وصرخ بوجه السائل: "لا تفسد علي محاضرتي، أنا لم أقل ذلك واذا أردت أن تفسد محاضرة ما فقوّل المحاضر ما لم يقُل".

تضايق الأستاذ السائل وتصبب عرقا ودموعا فنهض بعض الحضور واصطحبوه الى خارج القاعة، ثم بدأ الحضور الخروح ولم يجرؤ أحد منا على السؤال،إذ لم يكن الأمر يستحق كل هذه الثورة، أما فؤاد زكريا فعلق تعليقا جميلا في محاضرة تلت محاضرة الجابري: "أنا لا أملك عضلات محمد الجابري".

تلك الجملة بقيت تصاحبني كثيرا وأنا أقرأ الجابري، وأتخيل أنه يتحدث عن العقل العربي مستخدما عضلاته أكثر من عقلانيته.