الله يرحم زمن فلان...
الحديث عن الحريات وسقفها في الكويت محل نقاش وتقويم وسجال دائم، فالبعض يرى أن الحريات والنقد السياسي في تراجع ويروج لذلك، بينما لا أرى مقياساً علمياً حقيقياً يمكن أن يجعل هذا التقويم صحيحاً، كما أن تجربتي المهنية لا تدعم صحة هذا الرأي على الإطلاق، فلقد عايشت العمل الصحافي لأكثر من عشرين عاماً، والشأن العام لأكثر من ثلاثة عقود، ولم أر طوال هذه المدة هذا الكم الذي يعيشه البلد اليوم من الوسائل الإعلامية المقروءة والمرئية، وعدد الكتاب والمعلقين السياسيين المعارضين، وانتشارهم في الصحافة ووسائل البث التلفزيوني والإلكتروني.
وحقيقةً فإن سقف الحريات والنقد السياسي لم يكن يوماً في الكويت بهذا المستوى العالي من الحرية، الذي يمس قيادات الدولة وتحديداً سمو رئيس الحكومة حتى في جوانب شخصية، وإذا أردنا القياس العادل لمراحل تطور الحريات والنقد السياسي فإن أطول فترة رئاسة وإدارة للحكومة يمكن مراجعتها والقياس عليها، كانت للأمير الوالد المرحوم الشيخ سعد العبدالله الصباح التي امتدت من عام 1978 حتى بداية الألفية الحالية، وفي تلك الفترة كانت هناك اعتبارات يعرفها الجميع مفادها أن الشيخ سعد العبدالله كان خارج نطاق النقد المباشر والتجريح لأسباب تتعلق بأنه ولي للعهد والأمير المقبل للبلاد، إضافة إلى أنه أحد رجالات الدولة المؤسسين الذي كان يمثل هيبة الحكم، بينما أصبح ملاحظاً اليوم أن كل من يبحث عن الشهرة السريعة والبطولة يلمح في مقال أو خطبة في حفنة مجتمعين في أحد الدواوين عن الشوكولاتة السويسرية وقضايا شخصية تتعلق بقيادات الحكومة، وأصبح التجريح الشخصي مقياساً للجرأة والشجاعة لكتاب وسياسيين جدد، لم يعاصروا فترات الرقابة الذاتية سابقا- وإن أنكرها البعض اليوم- ولا يعرفون قيمة ما تحقق من إنجازات تمثلت في فصل ولاية العهد عن رئاسة مجلس الوزراء، وتنازل الأسرة عن مناصب ووزارات كانت تعتبرها مواقع سيادية، وفتح تراخيص الصحف والبث المرئي والمسموع، وصولاً إلى مراجعة مصروفات ديوان سمو ولي العهد، والتحقيق كذلك في حسابات ديوان رئيس الحكومة، وهي أمور كانت من المستحيلات قبل سنوات قليلة. ما يحدث اليوم من تخريب لتلك الإنجازات عبر "شخصنة" المعارضة والنقد السياسي بصورة غير مسبوقة، وصنع البطولات الوهمية من خلال التجريح الذي يصل إلى حد السب والقذف، سيجعل السلطة تفكر ألف مرة قبل أن تتفاعل مع أي إجراءات وقرارات إصلاحية وشعبية جديدة في نظام الحكم على المدى القريب، بعد أن رأت كيف كان استغلال السابق منها فظاً ومخرباً، وحتى لا يخسر البلد مزيداً من إنجازاته لحساب البطولات والشهرة الشخصية والتطلعات الانتخابية، نطلب من شباب الصحافة المتحمسين وأشبال الجيل السياسي الواعد الحالي أن "يهدوا" اللعب قليلاً ويصعدوا السلم خطوة – خطوة، حتى لا يخسر البلد قيافة خطابه السياسي وتطور الحريات وتكريس المشاركة الشعبية في الحكم، وحتى لا يترحموا هم أنفسهم في المستقبل ويرددوا "الله يرحم زمن فلان..."!