«توكلنا على الله... يا رياح خذي السفينة»، هكذا كان البحارة يستهلون رحلة الغوص بالغناء والموسيقى، تعينهم في رحلة الشقاء، وتواسيهم في بعدهم عن الأهل وحنينهم للأحباب وتحثهم على الصبر والإصرار والجلد، وتشد من عزمهم في مواجهة قسوة البحر والخوف من المخاطر، وتخفف من عناء عملهم المضني الشاق... رحلة طويلة من بداية بناء السفينة إلى النزول في الماء والتوديع إلى الانتظار لشهور طويلة وثم الاستقبال، كلها تجسدت بالتعبير الغنائي الشجي، مرة حزناً ومرة نحيباً ومرات استهلالاً وفرحاً، ليترسخ في الذاكرة الوطنية ذلك التراث الأصيل ضارباً جذوره في الأعماق.
ويأتي الظلاميون اليوم ليزيدوا على سواد الليل سواداً في محاولاتهم تحريم وتجريم الموسيقى وإلغاء قرار تدريسها كمادة أساسية في مناهج التربية والتعليم، وهم لن يكتفوا بذلك، بل سيسعون إلى إلغائها تماماً. يريد هؤلاء إعدام الموسيقى، ولكن كيف تمسح ذاكرة الوطن؟ وكيف تخنق الثقافة ويموت التراث؟ وكيف يعدم صدى الماضي وعبق التاريخ؟ ذلك التاريخ الذي يغني... كما وصفه الشاعر الكبير الراحل عبدالله العتيبي:«يا صدى التاريخ من كاظمة عد إلى الدنيا كقيثار مغني...تقف الدنيا جلالاً عندما يوقف الأيام تاريخ يغني».ففي البدء كان البحر... «وكيف يختفي البحر وهو ملء العين أينما اتجهت في الكويت، وله جذور ممتدة إلى أعماق الطبع الكويتي فهو من معتقداتها الدنيوية»، هكذا قال فيه زكي طليمات قبل ثلاث وأربعين سنة. فاسألوا البحر عن الأنغام الشجية للنهام، وفن الصوت واليامال، والتصفيق الكويتي والسامري والخماري والبداوي... واسألوا الموج عن تمايل السفن ورقصها على الإيقاع وهي تمخر عباب البحر، تلك الألحان الساكنة في الحنايا من يستطيع انتزاعها؟ وكأني بالبحر يجيب:«اعزف يا شاعر والربابة لك ضلوعي... خل الغناوي كل شوقي يشيلنه»، في دعوة جميلة للتوحد بين فنون البحر والبادية. كان الكويتيون في الماضي يرددون في انتظارهم للبحارة «توب توب يا بحر ما تخاف من الله يا بحر»... كانوا يشكون من قسوة البحر، واليوم هناك من هو أكثر قسوة وجبروتا، ونلجأ اليوم إلى البحر، لأنه الشاهد الأقدم على هذا التاريخ، فهو المعلم الأول والملهم الأول.يقولون «الموسيقى فتنة»! ونحن نقول بل هي علاج للنفس، وشفاء للروح، ومبعث للحماس، واستنهاض للهمم، وتعميق للشعور الإنساني والوطني... فالموسيقى عند ابن رشد تعنى «بتثقيف النفس وتمريسها على الفضائل الخلقية وتلطف من خشونة الطبع»، والهدف الأخلاقي منها هو «الحث على الشجاعة والاعتدال»... فالموسيقى وسيلة للتعبير الإنساني، والرسالة التي تستطيع أن تصل إلى القلوب مباشرة، كيف لا وهي التي أوصلت رسالتنا الإنسانية التي هزت الضمير الإنساني وأبكت العالم أيام الغزو الصدامي الغاشم حين غنى عبدالله الرويشد بصوته العذب في أوبريت الليلة المحمدية «مدام يا ربي خلقتلي دمعي من حقي أبكي انشالله أبكي دم... ومدام يا ربي خلقتلي صوتي حصرخ لو العالم حجر أصم».ومَن منّا ينسى صوت عبدالكريم عبدالقادر حين غنى وطن النهار بصوته الشجي «قلبي خفق يا كويت شلتك بيوفي وطن... غصب على الآلام ترجع وطن من جديد»... هذه الألحان التي استطاعت إيصال رسالة المقهور إلى العالم، ومن ينسى الأغنية الرياضية التي كنا نرددها بحماس ونحن صغار «أوه يالأزرق إلعب بالسَاحة يا كويت»... والأغاني الوطنية التي تحرك مشاعرنا وتنمي إحساسنا بالوطنية مثل «رفرف يا علم بلادي... فوق السهل والوادي» لسعود الراشد، و»سطر الدستور كفاحنا... بمجلس الأمة أملنا» لعوض الدوخي، و»عزيزة لأنها عزيزة تصونها الجوارح» لشادي الخليج... وغيرها وغيرها.واليوم بعد أن تراجع مستوى الموسيقى في الكويت بسبب الردة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، لا نملك إلا أن نترحم على ماضٍ تليد حين كانت الموسيقى الكويتية في عز مجدها، وكانت الأوبريتات الخالدة تتردد على الشفاه والقلوب... لا نملك اليوم إلا أن نردد ما تغنى به الرائع محمد عبدالوهاب «ياللي بدعتوا الفنون.. وفـإيدكوا أسرارها... والفن لحن القلوب يلعب بأوتارها... والفن دنيا جميلة وإنتو أنوارها».
مقالات
اسألوا البحر
18-11-2009