ما إن تبدأ معركة اللاهوتيين بمبارزة فكرية أو ثقافية مع الآخر حتى تبدأ الجوقة بالعزف على أوتار الجهل والتضليل، وتبدأ جموع القطعان بالتصفيق والتهليل والمباركة في حفل الشتائم والقذف على من يخالفهم، لا بهدف الوعي ومقارعة الحجة بالحجة، بل بخطاب إنشائي حافل بالدعاء والثبور على من يخالفهم من المذاهب الدينية وغير الدينية، وبهذا الأسلوب الفج ولا أخلاقية الخطاب الديني المتطرف في مواجهة الخصوم مواجهة شريفة، مواجهة فكرية وثقافية لبيان ما قدمه التيار المتطرف من نتاج حضاري أو ما قدمه ويقدمه الفكر الليبرالي في جميع المجالات الطبية والتكنولوجية والعلمية والأدبية وغيرها، مما لا يستطيع أصحاب هذا التيار نكرانه أو عدم طلب المساعدة من الغرب الضال- برأيه- أو اللجوء إليه هربا من ظلم إخوة الدين والوطن.
وتبدأ الأسطوانة المشروخة والمتكررة بأن تلك الحضارة هي بفضل حضارتنا الإسلامية وإسهاماتها في تلك الإبداعات الحضارية الغربية، متناسين أن تلك الحضارة الإسلامية أو كما يحب تسميتها د.أحمد البغدادي بحضارة «دار الإسلام» هي نتيجة بروز المدارس العقلية التي ظهرت إبان العصر العباسي والمأمون تحديدا، الذي قرّب وشجّع مذهب المعتزلة العقلانيين وحركة الترجمة للكتب اليونانية، فأنجبت تلك الترجمات أمثال الرازي وابن سينا والفارابي وابن الهيثم وجابر بن حيان وغيرهم، وأتمنى لمن لديه قلق معرفي وثقافي، قراءة حياة هؤلاء العلماء وإلى من ينسبون الفضل في تلك العلوم التي أغرقوا العالم بها آنذاك. وليتساءل الإسلامويون بعد ذلك لماذا توقفت الأمة عن إنجاب مثل هؤلاء الفحول من العلماء، وبدأت الأمة الإسلامية في الانهيار والتقهقر إلى يومنا هذا (اخترت تلك الحقبة بسبب عدم وجود الماسونية ولا الصهيونية ولا الغرب المضلل ولا أميركا لأنهم شماعة الدعاة في تراجع النتاج الحضاري للمسلمين) ولماذا لم تبرز مدرسة دينية منذ عصر المتوكل بحمل تلك الشعلة النيرة في حقبة قصيرة من تاريخ 1400 عام منذ نشأة الدولة الإسلامية؟! إن سلسلة الهجوم على الليبراليين والفكر الليبرالي هي هجمة طبيعية بسبب الصدمة الحضارية الواضحة للفكر الليبرالي الفلسفي والعلمي في كل زاوية من زوايا حياتنا، والتي ينعم بها القريب والبعيد والشريف والدنيء من بني البشر، والتي أخذت بلب هؤلاء الموتورين من هول صدمة التطور والاكتشافات الحديثة.بينما نرى نبيل العوضي على شاشات القنوات الفضائية، وصفحات الجرائد يدعو إلى نبذ وإقصاء العلمانيين، بحجة الابتذال والتهتك الأخلاقي، وأن هذه هي الليبرالية التي ندعو إليها، وبسذاجة البعض يتم ترديد تلك الروايات المختلقة من العوضي دون الرجوع أو البحث للتأكد من روايته المريضة، وهذه صورة تعكس صورة نفوسهم المريضة والموغلة في الاضطراب النفسي والنظرة الدونية للآخرين.الليبرالية ليست مفهوما وفكرا مقدسا لا يُمس، بل هي حاجة ضرورية نتيجة الاستبداد الديني في العصور الوسطى باعتبار أن الكنيسة هي صاحبة الحق المطلق والحقيقة المطلقة لكل معضلة، فأغرقت أوروبا في بحر من الدماء بين الكنيسة الكاثوليكية في مقابل نظيرتها من البروتستانت والفلاسفة التنويريين، وقد ضاقت أوروبا من تلك الصراعات حتى أنهى الفكر والنهج الليبرالي محاكم التفتيش بحاكمية العقل المتجدد لا النقل الجامد، لتخوض أوروبا غمار البحث والعلم بعيدا عن الأساطير والخرافة التي خلفتها المؤسسة الدينية، ولا أعتقد أننا في عصرنا هذا- يا نبيل- نختلف عن أوروبا وهيمنة التيار الأصولي بدعم من السلطة السياسية لكي يقوم التيار الديني بدور الحارس والمدافع عن حياض الإسلام بمباركة السلطة.إن جدلية الحديث عن الليبرالية والإسلام هي جدلية النظرية والتطبيق، ولطالما تحدث الدعاة عن الفارق الواضح ما بين الإسلام كدين والمسلمين كواقع يومي نراه من تخلف وجهل وتطرف، وبأن ذلك الواقع نابع من فهم خاطئ للدين والابتعاد عن جوهر الدين، ولا نعلم هل جوهر الدين هو ما تلفظ به الداعية نبيل العوضي ومن هم على شاكلته؟ وهل نستطيع القول إن سلمنا بتلك الجدلية إن هناك فرقا بين الليبرالية كنظرية وأفعال بعض الليبراليين إن صدق ما اتهمهم به العوضي النبيل؟إن دعاة التطرف الديني يعيشون أزمة أخلاقية نرى من خلالها الفكر الذي يؤمنون به، ولغة متعالية هي أشبه بدخان يعلو بنفسه لفترة قصيرة ويتبدد في الفضاء الرحب، وتبقى تبعاته ورائحته تغدو علامة بارزة لضحالة الفكر الماضوي في مقابل الامتداد الشامل للعقل النقدي، وبذلك تزداد الهوة الحضارية بين التراثيين والليبراليين، في صراع بين العقل والنقل لانتزاع الإنسان من ظلامية التطرف الديني. كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراءيمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة
مقالات
نبيل العوضي والليبرالية
28-03-2010