2010 حديث بالمناسبة
ينتهي العامُ كلَّ عامٍ بلحظة هتاف من حناجر الناس، قوّتها لا تنبعثُ من رغبةٍ في التعبير عن مسرّةٍ كامنة، بل رغبةٍ في التعبير عن توقٍ كامن لحياة أخفّ وطأة، وأقلّ ألماً. مسرةٌ طالما ارتضت الانتظارَ الصبورَ على الأعتاب، ولم تُقبل على الناس، في عُرفِ أكثر الناس رضاً! يسبقُها إليهم عطاءٌ لا ترتضيه النفسُ، من الفقدانِ، والتضحيةِ المجّان، والجريمةِ، والحربِ، وأزماتِ المعيشة، وخيبةِ الأمل...
الذي يُطلُّ على الأرض من مَبعدَةٍ، يرى أن صرخةَ الحناجر تلك واحدةٌ متكررةٌ عبرَ التاريخ.ويرى أن خطواتِ الأقدار العمياء هي هي، موحلةً، داميةً، وكأن ما حدث هذا العام ليس أكثر من صدى للعام الذي فات، ولكل الأعوام التي سبقته. ولقد اعتاد الإنسانُ ابن الأرض هذه الدورةَ اليسيرة كدورة دمه، واعتاد هتافه المتحرّقَ للمسرّة التي لا تُقبل.ابن الأرض لصيق الأرض، ولصيقُ التاريخ. الشاعرُ كذلك مع زيادة ليست في حسبانِ أحد. هو ابن الأرض ولصيق التاريخ شأن الجميع، لكنه أيضاً قادر على أن يُطلَّ عليهما من مبعَدَةٍ فيرى. يرى في التاريخ حجاباً يُخفي ما لا يُرى، كما يرى في «أديم الأرض» سرَّ أجسادنا المعرّضة للزوال (المعرّي).السنةُ تنتقلُ في لحظةٍ إلى السنة التي تليها، عبر حناجرِ الناس. هتافُ الحناجر يُيسّر هذا الانتقال، ويمنحه صبغةً آملةً. زمنُ الشاعر لا يتحرك ذات الحركة، لأنه حين يرقبُ السنةَ وانتقالها، يعرف أن السنةَ تجريدٌ، وأن اسمها رقمٌ رمزيٌّ من أرقام الحساب، وأن وراء الزمن التاريخي آخرُ ثابتٌ ثبات البحر المحيط، فقصيدتُه التي تنتسب إلى هذا الزمن الثابت تشهدُ بذلك: ألمْ تكُن كتابتُها «إعادةَ كتابة» لقصيدة، طالما تعرّت بمفاتنَ جديدة عبر «التكرار الأبدي»! حشرُه مع الناس عيدٌ، ومسرّتُه بمسرتهم، وفي كلِّ ما يكتب ابتهالٌ من أجل مزيد من الآمال، تضفي على أرواحهم ندى الليل، وتحفظها من الجفاف، على أنه في كل هذا المسعى لا يراهم إلا عبر نافذةٍ في داخله مُشرَعة، نافذة يُغلقها في ساعات نومه فقط، لأن أحلامَ الليل في داخلِه لا تُحوجه إلى نافذة للتطلّع.على مرايا عينيه، وهو يتأملهم، تنعكسُ مراوحُ أسرِارهم التي لا تهدأ: صحافةٌ تجعل من كلِّ حدث كانَ، مفاجأةً ليست في الحسبان. أسواقٌ تعبث في مصائرِ الناس بمهارةِ لاعبِ سيرك، دولةٌ تختبرُ سلطانها في الخفاء، على خشبةِ مسرح بالغ العتمة، سَحرَةٌ، محترفو راياتٍ، يهتفون:نعرف ما لا تعرفون، وبيدنا مفتاح الأسرار! وجرذانٌ تنبش في القاعدة التالفة للسُدّ الحصين!مُنشغلٌ في قراءةِ كتابه في الليل الأخير من السنة، وفي اللحظة التي يرونها الآخرون حاسمةً، لا يرى هو فيها غير صفحة في القراءة، يقلبها في الفجرِ الأول من السنة الجديدة ليواصل. الصفحاتً بالغة التشابه، والكلمات تنتسب إلى معانيها، والمعاني لا تؤرّخُ إلا للروح. الفكرةُ التي كانت عالقةً على أهدابه أنضجتها حركةٌ للنمو عموديةٌ لا أفقية، وحركةُ التاريخ أفقية. رائحةُ الشاي التي يحبها مع الفجر، تستحضر له ماضيه كرائحة، لا كأحداث، وذاكرتُه تستحضر أمّه على هيئة دفء مفاجئ. زمنه الماضي لم يخلّف إلا رموزاً حسابيةً مجردةً تليق بتقويم رسمي، يمنحها هو سحرَ الأسطورة، لتعود فاعلة في مخيلته، وحية.إنه يعرف الفاصلَ بين إنجاز كتابٍ، والشروعِ بآخر، بين صمتِ اللوحة حين تكتمل، ولغوِ الأخرى حين تبدأ، بين فكرةٍ تَخيب فتتلاشى، وأخرى تنبعث ناشطة، بين حُبٍّ خائب يتوقف عن حكمةٍ ، وجديدٍ طائشٍ لا رشاد له... لكنه لا يُحسن معرفةَ الفاصل بين نهاية سنة، وبدءِ أخرى، لا يسمع وقع خطوةٍ استثنائية، أو صريرَ بابٍ يُغلقُ وآخرَ يُفتح، أو سقوطَ ورقةٍ ذابلةٍ إيذاناً بسقوط ندفِ الثلج، أو خاتمةً لحركة «ألليغرو» متسارعةً، وبداية لحركة «أداجيو» بطيئة. لا يُحسن معرفة ذلك، وقد تجاوز الستين!