قرار وزيرة التربية والتعليم العالي بتوظيف البدون هو خطوة محمودة، وفي الاتجاه الصحيح، ولعلها تكون بداية لانفراج أخطر أزمة في تاريخ الكويت الحديث. ولتحديد أبعاد خطورة المشكلة فهي كالتالي، يوجد على أرض الكويت بشر يقارب عددهم 120 ألف إنسان محرومون ومميز ضدهم وإن بدرجات متفاوتة من العمل والتطبيب والزواج والسفر وشهادة الميلاد، وشهادة الوفاة، والسبب وراء تلك السياسة الفاشلة، هو الضغط عليهم لإخراج هوياتهم الأصلية. وقد ثبت لي من خلال اهتمامي بالشق الإنساني لقضية البدون، أنَّ هناك جهلاً فادحاً في طبيعتها ومكوناتها، والأنكى من ذلك هو أن عدداً من المسؤولين عن تلك السياسة قد أقر بفشلها، ولكن الإدارة البيروقراطية تصر على الاستئساد في تثبيت مواقعها ضد البدون.

Ad

بدأ تحول موضوع البدون إلى مشكلة عام 1985، أي منذ قرابة الـ25 عاماً، وليس كما يظن البعض أن لها ارتباطاً بالغزو. فجاء القرار الحكومي بإلغاء صفة بدون التي كانت معتمدة رسمياً آنذاك، لتصبح "غير كويتي"، ورافق ذلك إجراءات تشددية وتضييق غير مسبوق. تلك السياسة كانت مرتبطة بالحرب العراقية- الإيرانية، وما أشيع حينها عن ضبط خلية في الجيش أغلبها من البدون تعمل لمصلحة إيران. وحتى اللحظة لم ينشر شيء عن تلك الشائعة وماذا جرى لها، أم إن كانت حقيقية أم مفبركة. في ذات السنة جرت محاولة اغتيال الشيخ جابر الأحمد رحمه الله التي استشهد فيها اثنان من البدون، أثناء محاولتهما قطع الطريق على الانتحاري الذي حاول بسيارته تفجير موكب الأمير الراحل. واكتشفنا حينئذٍ أن غالبية الحرس الأميري الخاص لسمو الأمير من البدون، ما يعني أن الدولة الكويتية قد وصلت بها درجة الثقة العالية بالبدون إلى أن جعلت منهم الأقرب للأمير. لا بل اكتشفنا حينئذٍ أن ما يقارب 80 في المئة من الجهاز الأمني الكويتي بجيشه وداخليته يتكون من البدون. وهو قرار لم تتخذه أجهزة خارجية، بل اتخذته أجهزة الأمن الكويتية وهي بكامل قواها العقلية والجسدية. فكيف بالإمكان أن يتم ذلك الدوران العكسي بهذه الصورة؟

استمر التضييق وتصاعد عبر السنوات، وتعاظم بعد تحرير الكويت، مع أن الغزو كان يمثل فرصة ذهبية للكويت في كيفية التعامل مع قضية البدون، لأنّ من المفترض أنْ يكون الغزو محطة اختبار نادرة لأولئك الذين صمدوا، والتحقوا بوحداتهم العسكرية، أو انضموا إلى وحدات جيش التحرير، ولكنها فرصة لم يتم الاستفادة منها، كعادة الأشياء في بلدنا، بلد الفرص الضائعة.

بين هذا وذاك، كانت تتم أكبر عملية ابتزاز في التاريخ، بحجج مختلفة، كحماية الأمن الوطني، وغيرها، وكان لافتاً أن تقريراً لجهاز أمن الدولة في الكويت، أوصى بالتوقف عن تلك السياسة المضرة، واستيعاب البدون بطرق وأساليب مختلفة، حرصاً على أمن البلاد، ولكن ذلك التقرير السري، المنطقي والعقلاني، تم وضعه تحت السجادة أو في سلة المهملات.

وحتى هذه اللحظة لم تقدم الحكومات المتعاقبة حلاً عملياً لمشكلة البدون، اللهم إلا تشجيعهم على شراء الجوازات المزورة، ودخلنا في مشكلة جديدة بعد انتهاء صلاحية تلك الجوازات، إذ أصبح لدينا "بدون مكرر"، و"بدون أصليين" و"بدون مزدوجي البدونية" وإلى آخر تلك السلسلة التي تصلح لمسلسل كوميدي. أما أظرف ابتكار فهو مصطلح "مقيم بصورة غير قانونية"، بل إنّ مَن هو أكثر إبداعاً هو الحكومة التي تصدر هويات شخصية لإنسان تسميه "مقيم بصورة غير قانونية"، ويبقى ذلك المقيم بصورة غير قانونية دون أي إجراء ضد إقامته غير القانونية. حقاً إن شر البلية ما يضحك.

مشكلة البدون إنسانية قبل أن تكون سياسية أو اقتصادية أو أمنية، وهي في حاجة إلى معالجة شاملة تتوخى الاعتبارات الإنسانية والمصلحة الوطنية، والحلول العملية الحريصة على أمن البلاد وآدمية البدون موجودة في الأدراج، فأخرجوها، وانفضوا الغبار عنها، وإلا فلنتوقع كارثة قادمة لن يحمينا منها الذين يصرون على الاستمرار في السياسة اللاإنسانية التي ثبت فشلها.

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء