العراق: من اللاهوت السياسي إلى الفلسفة السياسية

نشر في 03-02-2010
آخر تحديث 03-02-2010 | 00:01
 د. شاكر النابلسي لم أنس أو أتناسى موضوع الاختلاف بين الثورة الفرنسية و«الثورة» العراقية 2003، ولكن في أثناء التفكير في موضوع العراق خلال المدة الماضية، وجدت أن اللاهوت السياسي العراقي الحالي الخطير، وضرورة الانتقال منه إلى الفلسفة السياسية العراقية، موضوع عاجل ومهم، ويجب أن يتقدم كل المواضيع العراقية المُلِّحة.

لماذا العراق مُهم؟

اهتمامنا بالعراق على هذا النحو الشديد والمتواصل منذ عام 2003 إلى الآن، مردُه إلى أن حضارة العراق، تعود إلى أكثر من ألفي سنة قبل الميلاد "عهد حمورابي 1795-1750ق.م". ثم إن العراق كان منبت أكثر من 80% من الثقافة والحضارة العربية، فمعظم الشعراء، والكتّاب، والفلاسفة، والمتكلمين، والفقهاء، والمؤرخين، واللغويين، وغيرهم، الذين نبغوا في عواصم العالم الإسلامي طيلة خمسة عشر قرناً من الحضارة العربية-الإسلامية عاشوا في بغداد، أو مروا بها، أو أقاموا فيها، مدة طالت أو قصُرت. وكانت بغداد في القرن الثامن والتاسع للميلاد، أشبه بباريس في عصر الأنوار والقرن التاسع عشر للميلاد. ثم إن العراق في المستقبل القريب، وبعد خروجه من دور النقاهة، سيكون العمق الاستراتيجي لليبرالية العربية، بحضارته، وثرواته، ونخبه، وموقعه الجغرافي والتاريخي.

العراق واللاهوت السياسي

منذ ما يقارب من نصف قرن، واللاهوت السياسي يحكم العراق، بالحديد والنار، ولم يكن لدى اللاهوت السياسي سواء في العراق أو في غيره غير الحديد والنار، فاللاهوت السياسي، لا يختلف كثيراً عن اللاهوت الديني، فكلاهما متعصب وضيّق الأفق، وكلاهما واحدٌ متوحدٌ، لا يسمح بظهور الآخر، ولا بحقه، ولا بخطابه.

فهكذا كان حكم حزب البعث في العراق، منذ 35 عاماً تقريباً، الذي ارتكب أكبر خطيئة له في التاريخ السياسي العربي، وهو فرض دكتاتوريته على الجميع، وإرغامهم على قبوله، وإلا فلا حياة لأحد في العمل، أو التعليم، أو التفكير، أو المواطنة، من غير أعضائه، ومن غير مريديه. وكان هذا الحزب، بما حَكَمَ، وبما طَبَّقَ على أرض الواقع، من سياسة أُحادية متعسفة أسوأ من أي حزب ديني متعصب، يمكن أن يصل إلى السلطة، بل إن هذا الحزب، كان في حكمه وطغيانه، أشد من طغيان وتعسف الكنيسة المسيحية في القرون الوسطى، وقبل قيام الثورة الفرنسية 1789.

حذاء البعث وقدم صدام

كان كل هذا في عهد سيطرة حزب البعث على الحكم في العراق، ووجود دكتاتور عاتٍ كصدام حسين على رأس الحزب، كان– كما كان يقول– أكبر من الحزب، وكلنا يذكر عبارته الشهيرة: «حزب البعث فردة حذاء ضيقة على قدمي!»

ولكن حزب البعث الآن في العراق، لم يعُد هو الحاكم المطلق، ولم يعُد صاحب اللاهوت السياسي، ولم تعُد أميركا راعية الحرية والديمقراطية في العراق تسمح لحزب البعث، أو غيره من الأحزاب القومية والدينية بالتحكُّم والانفراد بالحكم في العراق.

وحزب البعث– كما هو معروف لدى العامة والخاصة– من أكبر الأحزاب القومية العربية، ومن أكثرها فكراً وفلسفة سياسية، كما أنه كان يضمُّ– ومازال– الصفوة والنخبة الفكرية والسياسية في العراق والعالم العربي، ومازال حزب البعث يحكم جانباً من العراق حتى الآن شئنا أم أبينا، فكثير من قادة الجيش العراقي الحالي مازالوا بعثيين، وكثير من رجال المخابرات العراقية الحالية بعثيون، وكثير من قادة الأمن العام، وقسم من موظفي الدولة من الكبار والصغار مازالوا- في دواخلهم أو في خوارجهم- بعثيين.

البعث ليس فسيلة نخل

لستُ بعثياً، ولم أكن يوماً بعثياً، بل إنني من أكثر الكتاب هجوماً على حزب البعث ممثلاً بشخصية حكامه كالراحل حافظ الأسد والفاني صدام حسين وبشار الأسد ونظام البعث في سورية، ولكن هناك حقيقة يجب أن نعيها تماماً، حتى لا نجهل فوق جهل الجاهلين.

البعث في العراق لن يُجتث بقرار أميركي كما تسعى أميركا الآن، ولن يُجتث بقرار شيعي أو كردي نتيجة الأهوال والمصائب التي أنزلها البعث في هاتين الفئتين في النصف الثاني من القرن الماضي، فالبعث في العراق ليس شجرة نخيل، أو فسيلة نخل، يمكن اجتثاثها ورميها بسهولة في المزبلة. فهو لن يزول من العراق، إلا بإزالة العراق، أو تقسيمه إلى دول ثلاث كما تمَّ في الاتحاد السوفييتي مع الشيوعية والماركسية، وأنا أختلف مع كثيرين من أصدقائي العراقيين الليبراليين على خطابهم بضرورة اجتثاث البعث، وأنا مؤمن بأن حزب البعث في العراق يحتاج إلى مراجعة شاملة وإعادة نظر من قبل قادته وزعمائه، لكي يستعيد دوره القومي، وهو بحاجة منا إلى العدل السياسي، وليس العزل السياسي.

العدل السياسي وليس العزل

من المؤكد، أننا عندما نكره البعث، ونضيق به، ونهاجمه، فنحن لا نهاجم فكره السياسي ولا خطابه السياسي في أصوله، ولكننا نكره البعث، ونضيق به، ونهاجمه، ونرفضه، من خلال من حكموا به، واستبدوا باسمه، كصدام وحافظ الأسد. ومن خلال من عادوه، وشوهوا صورته، كعبدالناصر وغيره، وهؤلاء ليسوا هم حزب البعث، ولكنهم ركبوا هذا الحزب كمطايا لهم، شأنهم شأن بعض الدعاة، ورجال الدين، الذين ركبوا الإسلام، واستعملوه كمطايا لهم لتحقيق أغراضهم، وهو ما تمَّ في الثورة الفرنسية بالنسبة لليعاقبة مثلاً.

والحل مع حزب البعث في العراق هو العدل السياسي، وليس العزل السياسي، كما فعل عبدالناصر في عام 1962 مع مجموعة من زعماء الأحزاب السياسية في «اللجنة التحضيرية»، وكان أن وقف المصلح الديني والسياسي خالد محمد خالد (1920-1996) وطالبه بالعدل السياسي، وليس العزل السياسي.

معنى العدل السياسي

 وكان خالد يعني بالعدل السياسي، منح أي مواطن شريف ومخلص لقضية وطنه حق المواطنة الكامل، مهما كانت طبقته الاجتماعية أو السياسية، ومهما كان انتماؤه الحزبي السابق. فلا يجب- في العراق مثلاً– أن يتم العزل السياسي للبعثيين المؤيدين لثورة 2003، والمخلصين للعراق الجديد ولمبادئه في الحرية والديمقراطية، حتى إن كانوا بعثيين، ولكن موقف عبدالناصر في 1962 كان كموقف نوري المالكي الآن، فأصاب الثورة المصرية من جرّاء ذلك ما أصابها، ونخشى على العراق المصير نفسه.

(وفي الأسبوع القادم نكمل إن شاء الله).

* كاتب أردني

back to top