يعتبر قانون إصلاح النظام المالي الأميركي "دود-فرانك وول ستريت" الذي وقعه الرئيس الأميركي باراك أوباما في الأسبوع الماضي أضخم خطة إصلاح جذري للنظام المالي الأميركي منذ الكساد العظيم الذي اجتاح العالم في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي.

Ad

وكما هو واضح فإن تدخل الدولة لإصلاح الاقتصاد الرأسمالي الحر كان أمرا حتميا لابد منه لكي تضمن المحافظة على استمرارية النظام الرأسمالي ككل، وحمايته من الانهيار الكلي الذي كان سيؤدي إلى فوضى عالمية عارمة، من أقوى مؤشراتها التداعيات السلبية المترتبة على الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة التي عصفت بالعالم، ومازالت، منذ خريف 2008.

ولعل الحديث باستفاضة عن قانون الإصلاح المالي الأميركي الذي أقر الأسبوع المنصرم يحتاج إلى دراسة علمية متخصصة ليس هنا مجالها، لكننا نستطيع القول هنا وبكل ثقة إن القانون الجديد، الذي أتى بغية معالجة تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، يدل دلالة واضحة على السقوط المدوي لنظرية "مدرسة شيكاغو للاقتصاد" التي كانت تنادي بإطلاق العنان لقوى السوق وآلياته "العرض والطلب" من دون حسيب أو رقيب من قبل الدولة على اعتبار أن السوق، كما تزعم هذه النظرية، يصحح نفسه بنفسه من خلال "اليد الخفية" للسوق.

 لقد فشلت "نظرية السوق الحر" الاقتصادية التي نظر لها طويلا "ملتون فريدمان وجماعته من الليبراليين الجدد" والتي تدعو صراحة إلى تقليص دور الدولة تدريجيا في النشاط الاقتصادي إلى أن يتم تلاشيه نهائيا، إذ إن السوق الحر، بحسب هذه النظرية، هو الذي يستطيع أن يعالج المشاكل الاقتصادية التي تواجه المجتمع بما فيها المشاكل الاقتصادية الطارئة، وهو الأمر الذي وجد له صدى واسعا في الكثير من دول العالم، خصوصا بعد أن تبنى الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية آنذاك مارغريت تاتشر هذه النظرية الاقتصادية التي أثبت التاريخ فشلها الذريع بعد أن أعلنت الأزمة المالية والاقتصادية العالمية الحالية سقوطها المدوي.

وعلى النقيض مما تدعو إليه "نظرية السوق الحر" فقد منح قانون الإصلاح المالي الأميركي صلاحيات جديدة للدولة الرأسمالية للتدخل في الاقتصاد الحر من خلال تدخلها في ضبط آليات السوق، والإشراف على أعمال البنوك والشركات المالية، والتدخل أيضا في وقف بعض تصرفاتها المالية التي ترى الدولة أنها ستضر المستهلك المالي، أو سيترتب عليها تبعات سلبية تضر الاقتصاد الكلي. بالإضافة إلى ذلك فقد منح قانون الإصلاح المالي الأميركي للدولة سلطة إنشاء هيئة حماية المستهلك المالي من مخاطر المنتجات المالية مثل المشتقات، وكما قال الرئيس الأميركي في حفل التوقيع "تعتبر هذه الإصلاحات أقوى إجراءات لحماية المستهلك في التاريخ، وهي ستطبق من خلال وكالة ضبط مالي جديدة مهمتها الوحيدة هي رعاية مصالح الناس، وليس البنوك الكبرى ومؤسسات الأقراض والمستثمرين، وهي ليست في مصلحة المستهلكين فقط  إنما أيضا في مصلحة الاقتصاد".

لذلك فإن قانون الإصلاح الاقتصادي الأميركي يعتبر اعترافا بالدور الحيوي للدولة في النشاط الاقتصادي الذي كاد أن يتلاشى بعد تبني العالم الرأسمالي خلال العقود الثلاثة الأخيرة نظرية "السوق الحر المنفلت"، الأمر الذي أوصل العالم إلى أزمة مالية واقتصادية خانقة جعلت الكثير من الأسر في الدول الرأسمالية المتقدمة تفقد منازلها بعد أن فقد أرباب هذه الأسر ومعيلوها أعمالهم، ثم عجزوا عن دفع التزاماتهم المالية للبنوك، "معدل البطالة في أميركا يكاد يبلغ نسبة العشرة في المئة"... والسؤال الآن هو: ترى هل أخذت التطورات الراهنة، الفكر الاقتصادي الرأسمالي العالمي في الاعتبار، عند وضع الإطار العام "لخطة التنمية" التي تعد الحكومة أنها ستقوم بتنفيذها؟ نشك في ذلك.