التاريخ لا يملكه أحد، ولا يستطيع أي كان أن يزعم جمالاً مطلقاً لزمن، أي زمن كان، فقواعد التحول الاجتماعي معروفة، والبشر هم البشر في أي مكان وزمان. وعادة ما نمارس حيلة نفسية معروفة ومفهومة، تجعلنا نهرب من واقعنا الرديء كما نراه ونعيشه، إلى زمن مضى، نسبغ عليه من صفات المثالية ما نريد. وهو سلوك نفسي يخلق لدينا شيئاً من الراحة المفهومة والمقبولة ربما عندما تكون على مستوى السلوك الفردي.

Ad

إلا أن المسألة تصبح أكثر إشكالية عندما يتحول ذلك السلوك إلى تقديس التاريخ، سواء بحسن نية أو غير ذلك، فنرى الحقب التاريخية بقدسية، ونضفي على شخوصها عصمة، ونحولهم إلى ملائكة، في ما يشبه أحلام يقظة، فنرى، مثلاً، أن حقبة تاريخية ما، كانت زمناً جميلاً، ونلقي كل اللوم على الحاضر، وننكفئ على الماضي لإيجاد مبرر نفسي مريح يخرجنا من حالة الإحباط العامة. ولعل المشكلة التي تواجهنا مع هذه الرؤية هي أنها تتجاوز حقيقة أن التطور السياسي، أي تطور سياسي كان، وفي أي زمان، بما في ذلك الحقبة موضوع سلسلة مقالاتنا هذه، وهي حقبة حكم عبدالله السالم، ليست إلا تعبيراً عن حالة الصراع، والتجاذبات، والتناقضات الدائرة في ذلك المجتمع، في إطاره الزمني، وضمن آلياته لحسم الصراع، لمصلحة هذه الفئة الاجتماعية أو تلك. وتلك النسبية الزمنية، إن جاز التعبير، قد ينطبق عليها المثل الكويتي القائل "كل وقت ما يستحي من وقته".

وتبقى آفة قدسية التاريخ وعصمة شخوصه عائقةً لحرية التفكير، وحرية اتباع الحقيقة، فالأشخاص "المقدسون" هم الحقيقة، وما يفعلوه هو الحق، وما عداهم باطل وساقط، حتى لو ثبت بالدليل القاطع ارتكابهم لأخطاء، فكل ما عليك هو أن تقوم بإعادة التفسير بما يتفق مع قدسية أولئك الأشخاص. الحقيقة هي أن التاريخ وشخصياته يصيبون ويخطئون، وعلينا أن نتعامل مع تلك الحقائق بقلب مفتوح، ورؤية غير متحاملة وغير متحيزة لكي نفهم ما جرى، فما بالك إن كان الأمر يتعلق بحقبة زمنية قريبة كما هي الفترة ما بين 1950 و1965 والتي تم فيها وضع الأسس لبناء الكويت المستقلة.

من منا مثلاً يستطيع أن ينكر في زمننا الحالي أنه لا توجد خلافات داخل الأسرة الحاكمة، وأن طبيعة تلك الخلافات متشعبة ومتنوعة، وأن بعض تلك الخلافات من الصعب، بل من المستحيل إصلاحه، فهو نتاج لتراكمات استمرت تطبخ تحت نار هادئة، وربما مشتعلة أحياناً. ولم تكن حقبتنا المعنية بها هذه المقالات بعيدة عن تلك الخلافات المستعرة، والعلنية في أحيان كثيرة، ولا يعني عدم وجود فضائيات وصحف يومية وإنترنت، أن الخلافات لم تكن حديث المجتمع آنذاك، بل هكذا كانت، إلا أن طبيعة إدارة الصراع في حقبة الخمسينيات كانت مختلفة، فسلطة الشيوخ حينها كانت مطلقة، وهي ليست كذلك في وقتنا الحاضر، ولكن ما هي حكاية اليمين واليسار في الأسرة الحاكمة؟

في الثالث والعشرين من يناير 1957 كتب المعتمد السياسي البريطاني في الكويت تقريراً يحلل فيه جوانب القوة والضعف داخل المجتمع السياسي الكويتي مركزاً على الأسرة الحاكمة. لم يكن التقرير تقليدياً، بمعنى أنه انطلق في تحليله لكي يصل إلى النتيجة المبتغاة وهي كيف لبريطانيا أن تحافظ على مصالحها النفطية في الكويت على مدى الـ30 سنة القادمة. الظريف في تلك الوثيقة أن كاتبها قام بتصنيف أفراد الأسرة الحاكمة إلى أقصى اليمين ويمين ويسار ويسار وسط، فمن كان ممثلاً لتلك الفئات، وما هو منظور اليمين واليسار "الشيوخي"، وهل لو أردنا أن نطبق ذات الفكرة على وضعنا الحالي فمن يا ترى يكون يساراً ومن يكون يميناً ومن سيكون يسار الوسط؟ فكرة تستحق المتابعة.

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء