الفضائل والرذائل تختلف من مجتمع إلى آخر، والأمر نسبي تماما، فما هو محمود ومستحسن في مجمتع ما، تجده مستنكرا ومستقبحا في مجتمع آخر، ونظرة المجتمع إلى هذه الفضائل أو الرذائل تبقى دائما هي الميزان، ومن هنا يستمد كل إنسان في هذا العالم قيمه الأخلاقية بحسب الموقع الجغرافي الذي ينشأ ويترعرع فيه من خلال العائلة والشارع والمدرسة ومكان العمل، ومن خلال الأوضاع الاجتماعية والسياسية المحيطة بنا جميعا تتشكل وتتفاعل شخصياتنا فتتكون قيمنا الأخلاقية الخاصة التي تميزنا عن الآخرين في بقاع أخرى من العالم.
وكثيرا ما نأخذ بقيم وأوزان فاسدة عند كثير من المجتمعات لأن المجتمع الذي نعيش فيه لا يراها كذلك، بل يستحسنها كثيرا، لذلك يخفى علينا هذا الفساد لنندفع في تياره بلا توقف أو تردد، رافضين أي اعتراض أو رغبة في تغيير ما اعتدنا واعتاد عليه آباؤنا من قبل، ظنا منا أننا نحسن صنعا ونقوم بالصواب، وهنا يحدث الجمود الذي ينتج عنه تخلف المجتمع وتأخره فكريا وأخلاقيا، فالمجتمعات الحية هي التي تتبدل فيها القيم والأوزان الأخلاقية والاجتماعية «نحو الأفضل» باستمرار.والقيم والأوزان نوعان: اجتماعية وإنسانية، وكلما ارتقى المجتمع وازداد وعيه وتحضره وتمدنه، كانت معظم أوزانه إنسانية تعلو فيها قيمة الإنسان وتحترم آدميته، ومثال هذه الأوزان والقيم الإنسانية في المجتمع المتحضر، استنكار الظلم ومحاربة الجهل ونبذ التعصب وتنوير الذهن وحفظ الحريات وتكافؤ الفرص وعدم التمييز بين أفراده، ومثال الأوزان والقيم الاجتماعية في مجتمع متخلف يتحول فيه الإنسان إلى مجرد رقم بين ملايين الأرقام يبحث عن ذاته ووجوده هو اقتناء أحدث السيارات، والتفاخر بارتداء أحدث الماركات، والتطاول في بناء وتأثيث البيوت، والمبالغة في إقامة الولائم وحفلات الزفاف، والحرص على التفاخر بالألقاب العائلية والأنساب القبلية، وغير ذلك كثير!ولكي تتضح الفكرة أكثر سنفترض أن صديقا لرجلين أحدهما اجتماعي والآخر إنساني قد مات تاركا خلفه زوجة وجملة أولاد، فالرجل الذي تغلب عليه الأوزان والقيم الاجتماعية سيحضر المأتم ويسير في الجنازة ويحضر الصلاة ويعزي أسرة الميت ثم يعتبر نفسه قد أنجز جميع واجباته، ولكن الرجل الذي تغلب عليه الأوزان والقيم الإنسانية قد يهمل كل هذه الواجبات ثم يبحث عن حال الأرملة وأولادها، فإذا وجد أنهم بحاجة الى المال بذل ما في وسعه لتأمين حاجتهم إليه، ثم تولى الأولاد بالنصيحة والحرص على متابعة أحوالهم أولا بأول ومساعدتهم قدر المستطاع.وعلى هذا النحو تسير الأمور في كل مناحي الحياة، فالاجتماعي حين يتولى منصبا رفيعا في الدولة، أول ما يصنعه هو الاستفادة الشخصية والحرص على تنفيع جماعته المقربين، أما الإنساني فأول ما يفكر فيه هو الإنجاز من أجل وطنه ومواطنيه كافة، والاجتماعي حين يصوت في أي انتخابات يحسب حساب المصلحة الشخصية والاجتماعية التي سيحصل عليها حين ينتخب هذا المرشح أو ذاك، أما الإنساني فإن ميزانه في الاختيار هو كفاءة المرشح وما يمتلكه من نزاهة وأمانة، والاجتماعي حين يتولى التدريس في الجامعة سيضع الدرجات للطلبة حسب القيمة الاجتماعية للواسطة التي تتصل به تطلب منه ألا يقصر مع «ولدهم»، أما الإنساني فيراقب ضميره ولا يرضى بأن يتساوى من أفنى الساعات الطوال في الدراسة مع من «يقزرها» في ستار بكس صباحا وفي الديوانية مساء، والاجتماعي حين يقابل سارقا للمال العام أو متاجرا بالإقامات سيرحب به ويوسع له بالمجلس ويراه «ذيبا أمعطا» جديرا بالاحترام والتقدير، أما الإنساني فلا يقيم له وزنا ولا يحترمه لأنه في نظره لا يستحق سوى الازدراء والتحقير!ومن هنا نعرف أن الضمير الحي والحقيقي هو الضمير الإنساني، أما الضمير الاجتماعي فهو ضمير زائف كل همه المنفعة الاجتماعية التي سيجنيها صاحبه دون اكتراث لما يصيب الآخرين من ضرر وأذى من هذه المنفعة، بل ربما ظن أن ما يقوم به أمر مشروع لا خطأ فيه حين يرى كل من هم حوله من أبناء مجتمعه، يقومون بنفس السلوكيات ويمتلكون نفس الضمير الاجتماعي المظهري المنفعي!وانظروا حولكم لتعرفوا كم أصبحنا اجتماعيين زيادة عن اللزوم، وإنسانيين أقل من اللزوم، ولعل هذا سبب جمودنا وتخلفنا وتأخرنا، وسبب كثير من مشاكلنا الاجتماعية والسياسية في الآونة الأخيرة، فقد ازدادت مجاملاتنا الاجتماعية على حساب المصلحة العامة لأننا لا نكترث سوى بأنفسنا ومن هم حولنا فقط، وكثر الفساد في كل مكان لأننا أصبحنا نستحسنه ولم نعد نعاقب ونحتقر الفاسدين، بل أصبحنا نحترمهم ونقدرهم ونعلي من شأنهم، وندافع عنهم في كثير من الأحيان! كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
مقالات
كائن اجتماعي... وكائن إنساني!
28-08-2009