احتفلت الولايات المتحدة قبل يومين بعيد استقلالها الموافق الرابع من يوليو. وقد صادف ذلك البدءَ بعملية انسحاب القوات الأميركية من المدن العراقية، والبدءَ بعملية «خنجر» في أفغانستان كأكبر عملية منذ فيتنام، وارتفاع معدل البطالة داخل أميركا إلى أعلى معدل منذ 26 عاماً، وإفلاس العشرات من البنوك، كما صادف أن الرئيس الذي ألقى خطابه الأسبوعي هذا العام هو رئيس غير تقليدي اسمه باراك أوباما، ابن المهاجر الكيني حسين أوباما، وهو من أصول إسلامية.

Ad

أميركا بلد المتناقضات وستبقى كذلك. هناك من بيننا مَن يهيم بحبها، وهناك مَن يرى فيها سبباً للشرور المستطيرة، وأنه لا سلام في الدنيا إلا بزوالها من الوجود. ومنا مَن يرى فيها الخير والشر في آن واحد. ولكن لا يوجد مَن لا يقر لها بأنها الأقوى.

فمع أن أميركا استقلت عن بريطانيا العظمى رسمياً في الرابع من يوليو 1776، فإنها ظلت حتى يومنا هذا محتفظة بشخصيتها الانجلوسكسونية، ومازالت الأوثق ارتباطاً بمستعمريها السابقين، أو العكس لا فرق. من المصادفات الغريبة في التاريخ الأميركي أن اثنين من المؤسسين والموقعين على إعلان الاستقلال وهما الرئيسان جون آدامز وتوماس جيفرسون قد توفيا في الرابع من يوليو 1826، أي في الذكرى الخمسين للاستقلال، وتوفي بعدهما الرئيس جيمس مونرو في ذات التاريخ بعد خمس سنوات في 1831.

وهي الآن الدولة الأقدر على التأثير في مسيرة البشرية، تعطي للعالم أكثر من غيرها، وتأخذ من العالم أكثر من غيرها، فالشعب الأميركي هو من أكثر الشعوب تبرعاً للعمل الخيري، لا تنافسه في ذلك شعوب العالم مجتمعة، وإنتاج أميركا الغذائي والزراعي هو الأكثر والأوفر، وإسهاماتها العلمية الخلاقة لا يباريها فيها أحد، وجامعاتها تتربع على المراكز الأولى بين جامعات العالم، واقتصادها هو الأول، وإعلامها وسينماها وموسيقاها هي المسيطرة، وسلاسل مطاعمها ووجباتها السريعة، تجدها في كل زقاق وسكة، وجيشها لا منافس له.

إلا أنها بالمقابل، نجدها قد أسهمت في فرض أنظمة دكتاتورية قمعية على الشعوب في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وهي بالذات كانت نموذجاً ذا دلالة، إذ تم تخريب مسيرة ديمقراطية واعدة هناك من تشيلي إلى الأرجنتين إلى السلفادور إلى الدومينيكان وهلّم جرا. كما أنها قدمت دعماً غير محدود وما زالت إلى إسرائيل المغتصبة.

وما إن زال الاتحاد السوفياتي حتى ابتدعت المفهوم الهلامي وأسمته «الحرب الكونية على الإرهاب»، وبررت من خلاله ممارسات بشعة وشائنة في غوانتانامو وأبوغريب والسجون الطائرة، وجعلت من «ريندشن» كلمة ذات معنى، واستمرأ شرارها الذين أُطلِق عليهم مصطلح «المحافظون الجدد» كل نقيصة، يخجل منها حتى مكيافيللي.

بل إن الخلل والفساد المستشريين في نظامها الاقتصادي بدءاً من سقوط شركة إنرون العملاقة وصانع الملوك «كين لاي»، ومن ثم سقوط عملاق المحاسبة في العالم «آرثر أندرسون»، حتى تدهور شركتي «فاني ماي» و»فريدي ماك»، ومن ثم «ليمان برذرز»، وفضيحة بيرني مادوف وإفلاس العشرات من مصارفها، قد فتّ في عضد الاقتصاد العالمي، وأسقط افتراضات كان الكثيرون يظنونها مسلمات.

في خضم تلك الصورة القاتمة، جاء انتخاب أوباما ليطرح بارقة أمل، على المستوى الرمزي، أو على المستوى الإنساني، ربما، أكثر مما هي على المستوى السياسي. فالتركة ثقيلة، والطريق طويل، والحاجة إلى ترميمه تتطلب أكثر من مجرد نوايا طيبة، على افتراض وجودها.

أميركا في عيد استقلالها الـ233 لديها قدرة فائقة على فعل الشر، وبها عدد ليس بقليل من الأشرار، يفوق، بالتأكيد، المليوني نزيل في السجون الأميركية، وهم ليسوا بالضرورة المقصودين، وفي المقابل فإن في أميركا خيرا كثيرا، وعطاءً كبيرا داخليا وخارجيا، وبها أخيار كثر ربما يفوقون عدد أشرارها، فلنأمل أن يتمكّن خيار الأميركان من شرارهم، وإلا فالعالم سيستمر في حالة التدمير العبثي، الذي لن ينجوَ منه أحد.