قناص الضوء والألوان
من منا يستطيع أن يرى الطبيعة كما تراها عين الفنان، بكل هذه التفاصيل التي تتحول إلى موسيقى من أضواء حية متراقصة؟
«كندنسكي» استطاع أن يمنح الضوء حياة مخلدة، حتى وإن كان الضوء لا يُؤْسَر ولا يقبض عليه، ولكن الفنان وحده هو القادر على قنص هذه التنويعات التي تمر مثل ومضة غير قابلة للصيد أو الاختزان. كيف ترى عين الفنان طبيعة الأشياء، وكيف تعيد ترتيبها وخلقها من جديد؟مئات المئات من التفاصيل التي تخلط وتمزج وتضرب وتعجن حتى تتغرب عن ماهيتها الأصلية وتولد بمعنى وصورة جديدين، إنها ولادة الفنان لها الذي خلطها ومزجها وخضها بماكينة إبداعه الخاص به لتولد من رحم المعنى الذي ركَّبها وشكلها فيه... شيء جديد... شيء خاص... شيء لا ينتمي إلا إلى مبدعه. في متحف «بمبيدو سنتر» أقيم معرض الرسام الكبير «كندنسكي» والمعد من طرف ثلاث جهات، هي: ميونيخ، ونيويورك وباريس، والمدعوم من معاهد كثيرة.هذا المعرض يقدم تحية إلى أعظم فنان قدمه القرن العشرون «كندنسكي»، والمعرض يضم الأعمال المهمة والعظيمة من سنة 1907 إلى 1942، بالإضافة إلى مجموع الرسائل الخاصة والمقالات، والكتب المؤلفة من قبل الرسام. وُلد كندنسكي في موسكو عام 1866، درس الاقتصاد وحصل على الدكتوراه، وفي عامه الثلاثين ذهب إلى ميونيخ ليدرس الرسم، ثم قام برحلة طويلة مع صديقه «غابريل مونير» دارا فيها أوروبا، حتى وصلا إلى تونس وقرطاج والقيروان، ورسم في هذه الرحلة الكثير من اللوحات الصغيرة.وفي متحف بمبيدو سنتر قُسم العرض إلى مراحل، كل مرحلة تختص بحياته وما رسمه في الدولة التي كان يقيم بها في ذاك الوقت، ويبدأ العرض في الصالة التي تحتوي على أعماله في ميونيخ ما بين 1908 – 1914، ثم يليه قسم اللوحات الخاصة بمرحلة موسكو من 1915 – 1921، ثم يليه قسم برلين 1922 – 1933 وأخيرا قسم لوحات باريس 1934 – 1944 التي استقر وتوفي فيها أيضا. وهذه بادرة كبيرة قام بها المتحف كتحية لهذا الفنان العبقري العظيم الذي خرجتُ من معرضه وأنا محملة بالشجن وبإحساس يصعب تفسيره، عبَّأ حواسي كلها، شيء يفرح الروح وشيء يحزنها، أقسم بالله أنه شعور صعبٌ وصفه وتصنيفه وضمه في خانة المعنى والتفسير.لا أدري إن كانت هي قوة الفن وحدها أم ما لمسته يد الفنان من لوحات ورسائل، ومقالات بقيت إلى اليوم تذكرنا به وبيده التي احتضنت وحطت على هذه الأوراق واللوحات بزمنها وبمشاعرها، وأحزانها وأفراحها، وحياتها المنطفئة.دائما هناك شيء يحزن ويخنق بالشجن، حين نرى مخلفات من يرحلون باقية وهم فانون. ذاكرة حية كأنها تنكر أفول من رحلوا لأنها تحرك حواسنا وتحرضها بهذا الكم من الحنين الجارف إليهم، فكيف إذن ارتبط هذا الحنين بقوة الإبداع والفن؟