عرفت الشيخ مشاري العفاسي منذ سنوات كقارئ للقرآن ذي صوت شجي، وإمام لصلاة التراويح والقيام، يتقاطر الناس للصلاة خلفه من سائر المناطق رغبة في الاستمتاع بصوته العذب، وبعدها رأيته وقد صار كذلك منشداً يطرب الناس بالأناشيد والترانيم الدينية، ومن ثم غدا صاحب قناة فضائية ذات طابع ديني تعنى بالقرآن والأناشيد وما شابه، وكنت أتابع وبكثير من الاهتمام هذا التطور وأتفكر وأنا مدرك بأن حياتنا المعاصرة بما فيها من وسائل حديثة تقنية متطورة للترفيه والتسلية تشد الانتباه وتختطف العقول تحتاج حتماً من أهل الدعوة والتربية الدينية إلى تقديم بدائل عصرية تستطيع دخول دائرة المنافسة لجذب الجمهور، وأن الإصرار على الرفض والمنع والتحريم دون تقديم البديل الجاذب سيجعلنا نخسر هذه المنافسة دون شك.

Ad

وكنت أرقب كذلك الدخول المتزايد لقراء القرآن والدعاة إلى هذا العالم الجديد المتجدد، وانخراطهم فيه بأنماط مختلفة، ما بين مقرئين يزوّدونك بالآيات، ومنشدين يطربونك، ومفتين ودعاة وواعظين ومفسري أحلام يصلون إليك عبر التلفاز والـ»سي دي» والـ»آي بود» والـ»إم بي ثري بلاير» ومن خلال رسائل الوسائط المتعددة الهاتفية، والإنترنت و»الفيس بوك»، و»التويتر»، وغيرها!

وقد كنت دوماً عندما أفتح نقاشاً مع أحد حول هذا الموضوع، أجد من يقول إن هؤلاء يقدمون بديلاً جيداً، خصوصاً للجيل الجديد، عما هو موجود من الفنانين والمطربين ولاعبي كرة القدم، وإن هؤلاء النجوم المشايخ يمثلون نوعاً من القدوة المثالية للنموذج الأخلاقي المتدين الذي يأتي بثياب عصرية، وكنت أقبل هذا الرأي، وإن ظلت تحيك في نفسي تساؤلات وربما قليلا من تشككات، وإن بقيت غير قادر على وضعها في هيئة نهائية متبلورة!

ما جعلني أعود إلى هذا الموضوع، هو إعلان تجاري تلفزيوني أشاهده يومياً منذ دخول شهر رمضان، يقدم من خلاله قارئ القرآن الشيخ مشاري العفاسي نشيداً عن رمضان، لمصلحة شركة «زين» للاتصالات، حيث يعرض هذا الإعلان بثلاث نسخ بالعربية والإنكليزية والفرنسية كلها بصوت الشيخ العفاسي ومن أدائه، يقول الشيخ في مقطع منه (بنسخته العربية): (رمضان يا «زين» الشهور)، لينتهي وكعادة إعلانات شركة «زين» بنغمتها الموسيقية الشهيرة.

وهذا الإعلان يأتي كإعلان لاحق لإعلان تلفزيوني آخر لنفس الشركة قدمه المطرب الشهير عبدالكريم عبدالقادر حيث غنى فيه قائلا: (آ يا الأسمر يا «زين»)، وأظن القارئ قد لاحظ أن أغنية عبدالكريم ونشيد العفاسي كلاهما قد تضمن وشدد على كلمة «زين» للهدف التجاري الواضح، وهو إبراز اسم الشركة المعلنة!

لا أدري إن كان هذا الإعلان مدفوع الأجر وإن كان الشيخ قد تلقى لقاءه أي مبلغ من المال، ولكن ليس هذا بيت القصيد، لأنه لن يغير من المسألة شيئاً، ولست هنا كذلك أوجه النقد لمشاري العفاسي بشخصه، أو لغيره من النماذج المشابهة، مع كامل الاحترام لهم ولمحبيهم، بقدر ما أرغب في أن أتشارك وإياكم التفكير في هذه المسألة التي بدأت ولا أدري إلى أين ستنتهي؟!

نعم قبلنا تطور الموضوع وأخذه بوسائل العصر، وتحول القراء والمنشدين والدعاة والوعاظ إلى نجوم بهيئة جديدة ينافسون نجوم الفن، وأن تصبح صورهم التي يستخدمونها على أغلفة وإعلانات أنشطتهم براقة ومعتنى بها كعناية الفنانين والمطربين ولاعبي الكرة بصورهم الفنية، وذلك لأجل التسويق والترغيب والبيع بالطبع، ولكن أن نصل إلى أن نراهم يقومون بتقديم الإعلانات لمصلحة الشركات التجارية، فهنا يصير من اللازم أن نتوقف مجدداً لنسأل ونتساءل عن أين سيرسم هؤلاء «المشايخ» الخط؟ وأين سيكون عندهم الحد ما بين ما يصح وما لا يصح؟!

اليوم بدأها الشيخ العفاسي بإعلان لشركة «زين»، فهل سنرى غدا شيخاً آخر يقدم إعلانا لشركة تجارية أخرى كائناً ما كانت؟ مَن يدري لعلها شركة مساحيق غسيل، من باب أنهم أناس يتطهرون، أو أن تظهر صور النجوم المشايخ كالمطرب عمرو دياب وكلاعبي كرة القدم رونالدو وزيدان على علب المشروبات الغازية والمقرمشات، وكلوا من طيبات ما رزقناكم!

بالطبع لست في موقع الحكم على ما يحدث، ناهيك عن أنه حتى الوصول إلى حكم لن يغيِّر من مسيرة الأمر شيئاً، فمركب هذه الأنشطة قد أبحر وأصبح في عرض البحر وركابه في ازدياد من كل الموانئ، لكنني سأظل واقفاً عند الشاطئ أتساءل: أين سيكون الخط الفاصل بين ما هو مقبول وما هو غير مقبول، ما يصح وما لا يصح، ولن أقول ما هو حلال وما هو حرام؟! فما رأيكم؟!