ما قل ودل: مروة الشربيني شهيدة الكرامة الإنسانية

نشر في 20-07-2009
آخر تحديث 20-07-2009 | 00:00
 المستشار شفيق إمام جريمة بشعة بكل المقاييس تلك التي كانت ضحيتها مروة الشربيني في دريسدن في ألمانيا، فهي تُرتكب في ساحة العدالة، في ساحة الردع والعقاب لكل مَن تسول له نفسه ارتكاب إحدى الجرائم، التي يعاقب عليها المجتمع، ولكل مَن روَّع الناس بخروجه على الناموس الاجتماعي الأخلاقي الذي يؤثم المشرع الخروج عليه، جريمة ترتكب في القاعة التي يقف فيها أعتى المجرمين في خشوع ورهبة وندم على ما اقترفت يداه من آثام وما يتوقعه من عقاب، جريمة ينتهك فيها الجاني حرمة المحكمة، وحرمة العدالة وحرمة العقاب.

بشاعة هذه الجريمة في أن مرتكبها قد خطط لها وأعد لها عدتها في سكين حملها معه إلى قاعة المحكمة في الجلسة المحددة لنظر الاستئناف المقدم منه عن الحكم الصادر بتغريمه 780 يورو بسبب ألفاظ السباب والقذف التي وجهها هذا الألماني إلى مروة الشربيني، بعد أن ألقى بطفلها البالغ من العمر ثلاث سنوات على الأرض في حديقة عامة كان ابنها يلهو فيها مع ابنته، وبسبب اتهامه لها بأنها إرهابية ومحاولته خلع حجابها، أثناء مرور رجال الشرطة الذين حرروا محضراً بما حدث أمامهم وأثبتوا أقوال شهود العيان من الألمان الذين أيّدوا رواية المجني عليها.

- القتل بلون البشرة

بشاعة هذه الجريمة في أن المتهم ارتكب جريمته النكراء، عدواناً على حق الدفاع الذي هو أصل الحقوق والحريات جميعاً، وعدواناً على حق التقاضي الذي استخدمته مروة الشربيني، المرأة السمراء الوافدة إلى بلد أجنبي، دفاعاً عن كرامتها وكرامة شعبها وأمتها، ضد المعاملة اللاإنسانية، التي يُعامل بها الوافدون إلى الغرب لاستكمال تعليمهم أو للإقامة والعيش فيه بعد أن ضاقت بهم سبل العيش في بلادهم أو سُدّت أمامهم أبواب الابتكار والإبداع وتحقيق الذات، ومن هنا كان وصفي لها بشهيدة الكرامة الإنسانية والحضارة الغربية، لتُشهِد العالم كله على الظلم الواقع من الحضارة الغربية على العرب والمسلمين.

بشاعة هذه الجريمة تكمن في أن الجاني تجرّد من كل معاني الإنسانية وقيمها في مجتمعات تتشدق بحماية حقوق الإنسان وحقه في الحياة، وحقه في الحرية، وحقه في الخصوصية، وحقه في التعليم والإبداع، ولم يكن للعقل أو العاطفة سلطان على غريزته البهيمية التي تجسدت فيها رغبته الشريرة وحقده الدفين على هذه السيدة التي لم تبادله سباباً بسباب، بل تجرأت وتجاسرت على أن تنتصف لحقها منه ومن مجتمعه بالالتجاء إلى قضاء بلده، والقضاء هو الحصن الحصين للحقوق والملاذ الأمين للحريات في كل بلاد العالم، فاستلّ السكين التي أخفاها بين ملابسه، لينهال طعناً عليها وعلى زوجها الذي حاول الدفاع عنها، فكان نصيبها ثماني عشرة طعنة أودت بحياتها، وكان نصيب زوجها ست طعنات ورصاصة في قدمه من أحد رجال الأمن الذين حضروا إلى قاعة المحكمة بعد ثماني دقائق من بدء الاعتداء، ليجدوا شاباً أسمر مصاباً بثلاث طعنات يقاوم الجاني الألماني، قبل أن يكمل جريمته البشعة، فاختاروا صاحب البشرة السمراء ليطلقوا عليه الرصاص، لأن لون بشرته كافٍ لإدانته، فسقط على الأرض ليعاجله الجاني بثلاث طعنات أخرى في ظهره ويجهز على زوجته.

- سلبية قاضٍ

وكانت الضحية الثالثة، مصطفى نجل الشهيدة مروة الشربيني البالغ من العمر ثلاث سنوات، والذي كان برفقة أمه التي جاءت إلى المحكمة لتدلي بشهادتها، فقد عايش هذا الطفل تلك المشاهد الدامية لحظة بلحظة والقاتل يمارس طعن أمه وأبيه بعنف وقسوة والدماء تنفجر من صدرها لتغطيه، وقد ارتمت عليه لتحتضنه وتحميه من هذا القاتل بعد أول طعنتين تلقتهما، كابوس سوف يطارده في أحلامه وفي يقظته.

وقد كشفت التحقيقات التي باشرها محامي عام نيابات استئناف الاسكندرية، حيث موطن الضحية الأصلي، والتي باشرها قبل سفره إلى ألمانيا لمتابعة القضية وتحقيقاتها، والتي سأل فيها أسرة المجني عليها، ومنهم شقيقها الذي رافق جثمانها إلى مصر، وما رواه له زوجها عن ظروف الحادث وملابساته، أن هناك أكثر من علامة استفهام على الموقف السلبي لقاضي المحكمة، الذي لم يطلق جرس الإنذار الموجود أسفل منصته لاستدعاء رجال الأمن، والموقف السلبي لرجال الأمن الذين حضروا بعد ثماني دقائق من بدء الاعتداء، وإطلاق رصاصهم على المجني عليه بدلاً من الجاني، وأيضا الموقف السلبي للحاضرين في قاعة المحكمة.

- العقوبة ومسببات الإجرام

ولبشاعة هذه الجريمة وعنفها، وكفاية الأدلة فيها على ثبوتها على المتهم على سبيل الجزم واليقين، فإن الدفاع عن المتهم لن يجد ما يدفع به التهمة عن موكله، سوى الدفع أمام المحكمة التي سوف يمثل أمامها القاتل لتنزل عليه عقوبة السجن في المجتمعات الغربية التي أُلغيت فيها عقوبة الإعدام، وهي لا تزيد بأي حال من الأحوال في ألمانيا على سبعة عشر عاماً، سوى الدفع أمامها بمسؤولية المجتمع الذي شاعت فيه ثقافة الكراهية ضد الآخر، سوف يدفع الدفاع عن المتهم بأفكار المدرسة الاجتماعية في علم الإجرام التي قامت على أصول فكرية لأقطاب هذا العلم، منهم تارد ودوركايم ولاسكاني، إذ ترى هذه الأصول وهذه المدرسة أن المجتمعات لا ترزأ بالمجرمين وإنما تصنعهم، وأن المجرم ليس صانع مجتمعه وإنما هو من صنعه، وهي المدرسة التي حلت محل نظرية لمبروزو التي تقوم أفكارها على نسبة الإجرام إلى تكوين بيولوجي شاذ لدى المجرم.

إن دراسة هذه الجريمة تتطلب جهداً وصبراً وجمعاً وتحليلاً، لكل الأحداث والقضايا والمعاملة اللاإنسانية التي تعامل بها الجاليات العربية والإسلامية في المجتمعات الغربية، وألا نهوِّن من الآمر ونعتبر هذه الجريمة حالة فردية تقع في كل المجتمعات.

وللحديث بقية حول الموقف الرسمي الألماني، وحول ثقافة الكراهية التي تعانيها المجتمعات الغربية ضد الآخر بوجه عام وضد العرب والمسلمين بوجه خاص، والأسباب التي أدت إلى ذلك، وكيفية استثمار هذه الجريمة لتحسين صورتنا في هذه المجتمعات.

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top