هذه المقالة تتمة لمقالة أمس، رأس ذي بذيل تلك. والمقالات هذه أسمّيها «مقالات التوبة». فقد كنت أثناء مراهقتي على شفا إرهاب، بحكم شخصيتي المتمردة الثائرة، ولو أن مكتشفي نجوم الحواري في أندية الإرهاب مرّوا بجانبي لأبهرهم أدائي ولضمّوني مباشرة إلى منتخب الإرهاب، كرأس حربة بالقميص رقم عشرة، لكن رحمة ربك تداركتني مبكراً فدلتني على رفقاء السوء الذين أرشدوني إلى كتب المبدعين وروايات عباقرة العالم، ووو، فنجوت ونجا الناس والبلد من خطر تفجيراتي.

Ad

على كلٍّ، كتبت أمس أن الموساد لا يمكن أن يغزونا ليدفعنا إلى التخلص من الدروشة، بل على العكس، إذا كانت نفسه «تهف» على غزونا، فسيدعم تكاثر المشعوذين بيننا. هكذا يقول المنطق، كي نغرق في التوافه. فبالأمس أصدر بعض علماء سفك الدماء في السعودية بياناً يؤيدون فيه قتل من يبيح الاختلاط. وقبلهم أصدر علماء الخوازيق في إيران بياناً عن طريقة الحجاب ونوع بنطلون المرأة.

وفي الصومال يجلد المشعوذون امرأةً تحمل على ظهرها طفلها، وعلى رأسها سلة خضراوات تتاجر بها في الشوارع لتعيل أيتامها، وهي لم تكن تقصد الإثارة بساقيها المتهالكتين، لكنه الفقر الذي حال بينها وبين ثوب طويل على مقاس «العلماء» بعدما تآكل ثوبها هذا.

لاحظ اهتمامهم، كله عن جسم المرأة وعن الخيال والشعوذة، في حين أنهم أمام مشاكل الناس الحقيقية لا يصدرون بياناً ولا خراطاً، بل يرددون المثل الحضرمي: «خلّها من حيث شرْقت تغيب». فلن تقرأ لهم بياناً عن البطالة أو عن نقص الرواتب أو تأخير السكن أو التلوث أو مستوى العلاج المتخلف أو تزايد وفيات الأخطاء الطبية بسبب لا مبالاة الحكومات، أو أو أو. هم عن ملابس النساء الداخلية «عند وجهك»، وعن سلسال عمرو دياب عند خشمك، وعن القطع والمزع والقتل والنحر والجلد عند ظفرك، ويا للهول، على رأي يوسف بيك وهبي رحمه الله.

وأنا هنا لا أتحدث عن رجال الدين كلهم، بل عن المشعوذين الذين خدّروا الناس بخرافاتهم... أحدهم يخطب بتأثر بالغ عن أحد الصالحين في الأزمنة القديمة، وكيف أنه يحج إلى مكة من كربلاء بالتحليق جواً على ظهر أي دابة تمر من أمامه، بقرة حزينة، عنزة عابرة سبيل، حمار أشهب، تيس في ريعان شبابه، لا يهم، اربطوا الأحزمة استعداداً للإقلاع! فيبكي البسطاء المتحلقون حوله تأثراً ويعطونه زكواتهم. والآخر يدّعي أن أحد الصالحين يحيي الموتى، وهكذا.

وأتحدث كذلك عن مشايخ الفضائيات، الذين يقبضون مقابل كل حلقة يظهرون فيها مبالغ طائلة. أحدهم يحصل على نحو 70 ألف دينار شهرياً، وهو الداعية المصري المشهور الذي يتمايص ويتنهوص عند حديثه عن سماحة الإسلام. وداعية سعودي يشق طريقه صعوداً لمنافسة أخينا المصري مالياً. و»داعية» فضائي كويتي عُرِف عنه تأليف القصص الخيالية، كقصة الليبرالي الكويتي الذي يرضى أن يدخل الشبان على ابنته في غرفتها وهو جالس في الصالة يتابع مسلسلاً! فتصدقه والدتي المسنة، حفظها الله، وتتمتم بنقاء «أشهد أن الساعة قربت، يا ربي عطفك ولطفك».

وبعيداً عن خزعبلاتهم وأكاذيبهم، دعونا نتساءل: إذا كان هؤلاء بالفعل دعاة يهدفون إلى نشر الإسلام، فلماذا يصرون على الأجور الخيالية، ولماذا يمتنع أحدهم عن الظهور إلا بمقابل هائل؟ والسؤال هنا للشيخ نبيل العوضي. ثم هل هؤلاء علماء دين لحومهم مسمومة أم تجار شنطة؟ ولماذا نقدسهم بطريقة فاقت تقديس الدين ذاته؟
أحد معارفي، فاشل دراسياً ومحدود ثقافياً وذو وظيفة متواضعة، لا يكاد يكفيه راتبه إلا إلى نصف الشهر، يحدثني بود: «أحب خصالك وأكره ضعف دينك»، وعندما أحدثه عن أوضاعه يجيبني بصوت تحت البنج «الله لا يغيّر، أنا مُرضي الله ورسوله، وساتر زوجتي، فلا ترى منها إلا نتفة من عينيها، والدنيا فانية»! وهو بهذا أطفأ محركات عقله وطموحه ونام بعدما ضمن الجنة، كما فهمَ من المشايخ. وعندما أتحدث معه عن الثقافة ووجوب تطويرها، يصعقني: «المشايخ متوافرون، إذا استعصى علي شيء استفتيتهم»! فأضع يديّ على رأسي مذهولاً، وأغمغم: «هيلا يا رمانة». وأغيّر مجرى الحديث: «شرايك نتسابق؟».

بربكم، هل يحتاج الموساد تخديراً للعرب أكثر من هذا؟ هل يحتاج «افرايم هالفي»، و»مائير داغان» ورفاقهما أكثر من أمة تنام على مخدة «الله لا يغير علينا» وتكتفي بالدعاء على خصومها؟ ألا تعتقدون معي بأن «داغان» يصفق الآن بحرارة وهو يحتسي البيرة كلما شاهد تقديرنا لمشعوذي الطائفتين، السنة والشيعة، الذين يجروننا من آذاننا إلى التناحر؟ بربكم، ماذا يريد الموساد أكثر من مشعوذين يصرفون الناس عن كل ما يطوّر بلدانهم؟ ألا تشاركونني الظن أن تكاثر المشعوذين بهذه الصورة الغريبة يقف وراءه جهاز مخابراتي شديد التنظيم؟... هذا ما يدفعني إلى الشك أن غالبية هؤلاء «المشايخ والسادة» صنيعة إسرائيل، وأن أي ثورة ليبرالية عربية تسعى إلى إقصاء المشعوذين ستقمعها إسرائيل.

وإذا أردنا هزيمة إسرائيل، فلنبتعد عن الحرب العسكرية معها، كي لا تمسح وجوهنا بالأرصفة وتحلق لحانا على الناشف، ولنحاول إعلاء شأن مشعوذيها ورجال دينها ليحتلوا صدارة الأخبار، فيقسّموا شعبهم ويبدأ التناحر بينهم، ويجعلوا قضايا إسرائيل الرئيسية تدور حول صوت المرأة ومرقة لحم الخنزير.

حينئذ، فقط حينئذ، سأضع ختم كفالتي لكم، وسأكتب: «بهالشارب، سنهزم إسرائيل خلال عشرين سنة، اضبطوا ساعات أيديكم».

ومن أراد فليؤمّن خلفي: «اللهم طهّر الإسلام من دنس المشعوذين، وافتح عقولاً على أقفالها الصدأُ، آمين».