صحافية في الخليج

نشر في 10-01-2010 | 00:00
آخر تحديث 10-01-2010 | 00:00
 ياسر عبد العزيز • جاءني صوتها عبر الهاتف: «أنا فاطمة الـ...، من ...، أعمل صحافية في جريدة ...، وأريد أن أحصل على تدريب متخصص، أشعر أن أمامي الكثير لأتعلمه. ما حصلت عليه في الجامعة لم يكن كافياً، أحاول أن أقرأ بعمق وأعلم نفسي ذاتياً؛ إذ لا تتاح لي أي فرصة للتعلم ممن هم أكثر مني خبرة. أنا شبه معزولة مع ثلاث زميلات أقل مني تأهيلاً وكفاءة وحرصاً على التقدم المهني، وأعاني سطوة (مشرفة قسم) معلوماتها عن الصحافة أقل كثيراً من معلوماتي عن اللغة اليابانية». بعد أقل من ثلاثة شهور كنت في البلد الخليجي الذي تجاهد فاطمة فيه لتطور مهاراتها كصحافية، وكان طبيعياً أن أسأل عنها، وكان طبيعياً أيضاً أن أُبلغ أنها تركت المهنة لوظيفة في إحدى شركات البترول.

• جاءتني بفرح شديد وفخر، تخبرني بأن زواجها من زميلها في نفس الجريدة التي تعمل بها بعد أقل من شهر. كانت فترة الشهر كافية جداً لكي تصل الكلمات المسمومة السوداء إلى أسماع خطيبها: «هل جُن الرجل؟ لم يجد سوى صحافية ليتزوجها». لم يتأثر صاحبنا بالدعاية المريضة السوداء، لذا فقد حصل الزفاف في الموعد المقرر سلفاً، لكنها تركت العمل... وذهبت إلى التدريس.

• تلك جريدة ليبرالية حقيقية، تخوض معاركها بشراسة وكفاءة وشرف. سعدت جداً، إذ سأتمكن من تدريب هذا الكادر المشاكس، وفي اليوم المقرر لحضور اجتماع التحرير الصباحي، كان مدير التحرير وأركان الأقسام كلهم مجتمعين حول «صينية مناقيش»، ثم بدأت الأسئلة والتقييمات والانتقادات والاقتراحات تتوالى. فرغ الحاضرون من معظم الملفات المطروحة على النقاش، وقبل الانصراف كل إلى عمله، اتصل المدير برقم داخلي، حيث تمكنا جميعاً من سماع صوت نسائي يرد على الـ«سبيكر». الصوت لمسؤولة «القسم النسائي» تتحلق حولها زميلاتها، وجميعهن مضطرات للعمل معزولات والمشاركة في الاجتماعات عبر الهاتف.

• كانت زميلة في كلية الإعلام- جامعة القاهرة، تركت فرصة سانحة لدراسة الطب لأنها تريد أن تعمل مذيعة. لم تمانع أسرتها الخليجية المرموقة بداية في أن تُبتعث إلى مصر لتقيم في سكن الطالبات. أبواها اللذان أتما تعليمهما خارج بلدهما وحصلا على مؤهلات مميزة كانا متفتحين بما يكفي ليقبلا إقدامها على تغيير مسارها العلمي، عادت إلى بلدها الذي كان يقفز خطوات واسعة في طريق الحداثة في الشكل والمبنى، وذهبت إلى التلفزيون حيث قُبلت على الفور للعمل كمذيعة، ولم تظهر على الشاشة سوى مرات معدودات؛ إذ تكفل الأخوال والأعمام بعرقلة مسيرتها، بحيث لم تكن هي ولا أبواها المتعلمان قادرين على مقاومة الضغوط العارمة. استقالت. وهي اليوم زوجة صالحة وأم لأربعة أطفال.

• زوجة وأم لطفلين. تعشق الصحافة، وتكتب الشعر، ونشرت ديواناً، ولأنها تزوجت حين كان عمرها 18 عاماً، فلم تكن قادرة على تمييز أخلاق رجلها واختبار قدرته على التوازن والوفاء بمتطلبات الحياة. الزوج لا يستقر في عمل، ولا يكاد يقبض على مبلغ حتى يبدده في سفرة أو تغيير سيارة. راتبها لا يكمل ألف دولار، تدفع ثلثه مضطرة لسائق رغم كونها تجيد القيادة، فيما يسطو هو على ما يتبقى، وتفكر جدياً في وظيفة أخرى وفي الطلاق أيضاً.

• لم تعد قادرة على تحمل سخافات بعض الزملاء وغباء معظم المصادر. تقول إنها لا تكاد تهاتف مصدراً أو تقابله في إطار العمل حتى يعتبرها مشروع «فريسة». كثيراً ما أتى إليها أحد الزملاء طالباً بإلحاح أن تهاتف مصدراً معيناً لتحصل منه على تصريحات مطلوبة: «مهما حاولت الاتصال فسيتهرب من الرد، وإذا رد وسمع صوتي فسيناور من دون أن يصرح، أما أنت فبالتأكيد سيتجاوب معك». تقول إنها باتت أقل حساسية تجاه مثل تلك الأمور، وإنها لم تعد تخجل أو تمانع في تلبية مثل تلك الطلبات.

• تزدهر الصحافة الخليجية ويتسع أمامها الأفق باطراد، وينحسر الكادر الوافد فيها لمصلحة صحافيين نابهين وواعدين من أبناء الخليج، حتى بات عدد غير قليل منهم محل طلب وتنافس شديدين داخل المنطقة وخارجها، لكنها لا تعرف الرحمة ولا العدل إزاء الزميلات من النساء، فمعظم هؤلاء الزميلات يعملن بأجور زهيدة، ويحرمن فرص التدريب والتعلم عبر الانخراط في «المطابخ» المهنية، ويقوّمن وجاهياً واجتماعياً ووظيفياً بأقل كثيراً مما يمتلكن من مؤهلات ومواهب ويبذلن من مجهودات، ويفقدن حقوقهن في الترقي في مراتب الإدارة العليا باستمرار، ويواجهن الضغوط الاجتماعية والشكوك والشبهات، ويتعرضن لكثير من السخافات والمضايقات.

لن تستكمل الصحافة الخليجية عناصر قوتها وقدرتها على الاستدامة والتطور من دون أن تتسع مهنياً للزميلات الصحافيات، فتستفيد من طموحهن وجهدهن، وأن ترقى قيمياً لتستوعبهن بشكل يليق بأحاديث رجالها المتواصلة عن الأخلاق والحرية والمدنية والحداثة.

* كاتب مصري

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة

back to top