تساؤلات بشأن مشروع قانون الاحوال الشخصية السوري الجديد
لدينا في سورية مشهد سريالي عجيب بحق «لجنة سرية» تشكلت في يونيو 2007 لوضع مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد، وهي مكونة من عدة أفراد وتثير فزعاً هيستيرياً وجدلاً واسع النطاق داخل الأوساط السورية في ظل غموض المهمة وغرابة الانتقادات والمخاوف التي تحيط بأداء اللجنة ومشروع القانون. مريب إلى أقصى حد كل ما يحيط بـ«مشروع قانون الأحوال الشخصية» الجديد الذي تسرب إلى التداول العام أخيرا في سورية. من حيث مضمونه الذي سأخصه بمادة مستقلة، المشروع «رجعي» بأتم معنى للكلمة، واقع الحياة اليوم وقانون الأحوال الشخصية المعمول به منذ أكثر من 55 عاما متقدمان عليه، وهو تمييزي بعد: منحاز للمسلم ضد غير المسلم، وللذكر ضد الأنثى؛ ويفتح الباب لقضايا الحسبة، ولا ترد فيه كلمة مواطن قط، ولا يحيل قط إلى اعتبارات تنموية أو سكانية أو سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية. المشروع مفتقر تماما لحس العدالة وحس المواطنة وحس العصر. ينضبط فقط بإرادة التطابق مع ما يفترض أنه الشرع الإسلامي. هذا كل شيء. لا الزمن موجود، ولا البلد، ولا المجتمع، إنه مشروع هاذٍ (منفصل عن الواقع) بصورة تذكر بفتاوى واجتهادات كثيرة تصدر في السنوات الأخيرة عن «علماء» إسلاميين.
ومما أمكن لنا معرفته من ردود عنيفة ضد المشروع الذي لم يدافع عنه أحد أن «لجنة سرية» تشكلت في يونيو 2007 لوضعه بتكليف من رئيس الوزراء (ربما عبر وزير العدل)، وأن العضو الوحيد المعروف في اللجنة أستاذ في كلية الشريعة في جامعة دمشق، وأن كل أعضائها ذكور، وليس بينهم أحد غير مسلم، ويبدو أنه ليس بينهم حقوقيون أيضا. السؤال الكبير، بل رزمة الأسئلة الكبيرة التي تثار في هذا الصدد هي: لماذا تشكلت اللجنة من فقهاء لا من حقوقيين؟ من اختار أعضاءها على هذه الصورة؟ لماذا هي سرية؟ ما التوجيهات والإيحاءات التي تلقاها أعضاء اللجنة عند الشروع بعملهم الذي استغرق نحو عامين؟ وهل في حصر عضوية اللجنة بعلماء الشريعة ما أعطاهم ضوءا أخضر لوضع المشروع بما يطابق انحيازاتهم العَقَدية والاجتماعية؟ وهل أعطي لهم انطباع بأنهم أحرار في عملهم؟ وهل يحتمل أنه قيل لهم: نريد منكم مشروع قانون للأحوال الشخصية وفق «الشريعة الإسلامية»؟ وفي سورية المتعددة اجتماعيا وثقافيا، والتي تُحكِم السلطات السياسية والأمنية فيها قبضتها على الحياة العامة، كيف تُرك أمر وضع مشروع قانون بالغ الأهمية لمجموعة موحدة الهوى الإيديولوجي، يعرض الحكم السوري ما لا يقل عن ارتياب عميق حيال إيديولوجيتها وولاءاتها؟ منذ متى كان رجال الدين هم المعتمدون الحصريون في وضع أي قوانين سورية؟ ولماذا لم نسمع بعد أكثر من شهر من تسرب المشروع، وما قيل في حقه من كلام خطير جدا (تحويل سورية إلى إمارة طالبانية، تفتيتها طائفيا وتدميرها، يمهد لسيول من الدم، أمراء الظلام، يجروننا لحقول الدم، مؤامرة كبرى، فكر تكفيري ظلامي يدعو إلى إخراجنا من بلدنا، استعادة بلهاء لماض بالغ البلاهة، الجلابيب... إلخ) أي رد من قبل اللجنة أو من قبل الجهة التي كلفتها لإعداد المشروع، مجلس الوزراء ووزارة العدل وربما وزارة الأوقاف؟ هل ثمة من يرغب في إشغال الناس ببعضهم وتخويفهم من بعضهم ودفع أزمة الثقة الوطنية إلى مستويات غير مسبوقة؟ وهل هناك من يريد إشعال حريق، يتولى من ثم إطفائه، بعد تفريق قلوب الناس وحفر خنادق الشك والعدواة فيما بينهم؟ وهل سيُرَدُّ المشروع بعد هذه المناورة الحربية المقلقة، أو ربما يقرُّ فعلا ليمنح الإطفائي دورا تحكيميا دائما؟ أو من أجل صيغة دائمة لتقاسم السيادة بين أهل الدولة وأهل الدين، تغلق الباب نهائيا دون أي مطالبات سياسية؟ هذا كله غريب ومريب. وليس أقل غرابة أن التعليقات والكتابات التي تطرقت للمشروع لم تكد تطرح سؤالا واحدا بخصوص السياق السياسي والمؤسسي الذي يندرج ضمنه. ندد الناس بالمشروع ومؤلفيه، أحيانا بلغة عنيفة وتحريضية، من شأنها أن تثلج قلب «اللجنة السرية» المتلهفة على تمزيق سورية طائفيا على قول خصومها الغاضبين. بدا من عشرات المقالات التي كتبت أن «اللجنة السرية» البائسة تلك سيدة نفسها وقرارها، دولة أو دونها الدولة، لكن وجِّه لوم خفيف لرئاسة الوزراء، كما لو أن هذه بدورها سيدة نفسها وقرارها. ينبغي الارتياب في هذه القصة كلها. أولاً لأن من واجب الكاتب والمثقف والمهتم بالشأن العام أن يرتاب في أولي السلطان، السياسي والديني، وأصحاب المصالح عموما. الارتياب حقه والتزامه الأساسي. وثانيا لأن المشروع مثار الجدل تكتنفه من ألفه إلى يائه التباسات متنوعة. من تأليف اللجنة الواضعة، إلى سريتها، إلى تركيبتها، إلى المضمون العفن لما تفتقت عنه قرائح أعضائها، إلى تعارض القصة كلها مع طبائع الأحوال السورية ومواطن السلطة والقرار الحقيقة فيها، إلى الصمت بشأنها رغم ارتفاع فوري لا ينكر في الوعي الذاتي الفئوي بفضل المشروع كما في منسوب التعادي الاجتماعي.. هل هذا هو المطلوب؟ كل هذا خطير، ومرشح لمزيد من الخطر، وهذا مسوغ إضافي للارتياب، فكيف يُكتفى بمهاجمة مضمون المشروع، ولا تساءل الحكومة والسلطات العمومية عن ملابسات هذه السيرة الغريبة بالتفصيل؟ في غياب شرح شاف ومقنع من قبل السلطات، نجد التنديد بالمشروع وحده، وهو جدير بالتنديد، سكوتا على ما قد يكون أسوأ بكثير، على تلاعب متعمد بالعلاقات بين الجماعات الدينية والمذهبية السورية، بما يتيح التحكم بها جميعا.لدينا مشهد سريالي وعجيب بحق: «لجنة سرية» (على الجمهور العام وليس على السلطات) مكونة من عدة أفراد، تثير فزعا هستيريا عند جمهور واسع، بينما الحكومة موجودة، والنظام الحاكم الشهير بسريته بأتم الصحة، وحالة الطوارئ المعمرة متجددة الشباب، وتمضي الأيام ولا يقدم «النظام الأمني» الأمن للخائفين. هل يشاركهم الارتجاف هلعا من تلك «اللجنة السرية»؟ وما يضفي على هذا المشهد السريالي مزيدا من الغرابة أن كاتبا واحدا فقط بين عشرات أظهر حسا نقديا، وطرح أسئلة متشككة. هل هذا معقول؟ وهل الخوف من السلطات هو وحده ما يبرره؟ ألا يبدو كأن «مشروع قانون الأحوال الشخصية» الجديد مناسبة لقول الأشياء نفسها بنبرة أعلى، بعد أن كانت تقال دوما لكن بنبرة أقل حدة؟ لتأكيد المواقف والانحيازات والولاءات نفسها علانية ومنحها سندا وطنيا؟ مواقف وانحيازات وولاءات من صنف ما يؤخذ على المشروع التعيس من مساس بالمواطنة والوحدة الوطنية. كأن هناك من كان ينتظر ضربات الطبل ليباشر الرقص. * كاتب سوري