الميـزان
وإذا كان القسط من مفاهيم العدل فإن الميزان من صوره، وقد ورد لفظ «الميزان» ومشتقاته في القرآن الكريم ثلاثا وعشرين مرة، اسما أكثر منه فعلا للدلالة على حقيقة الميزان والموازين. والفعل في صيغة الأمر للدلالة على أن العدل أمر إلهي وحقيقة موضوعية. وهي موازين موضوعية «الميزان» و«الموازين»، وموازين ذاتية لقياس أعمال الإنسان «موازينه». وهما الصيغتان الاسميتان الأكثر شيوعا.وقد ورد اللفظ بخمسة معان: الأول وهو الأكثر شيوعا هو العدل في الدنيا والأمانة في التجارة، واستيفاء الكيل والوزن بالعدل والقسطاس، «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ». وهو المعنى الحسي في البيع والشراء «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ». وهو أمر مباشر للناس «وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْط»، وعادة ما يريد البائع إعطاء الشاري أقل من حقه فيخسر في الميزان ويغش فيه بالنقص «وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ». فالدفاع عن حق المستهلك ضد جشع البائع «وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ». فالنقص من الوزن يبخس حق الناس «فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ». واستيفاء الكيل وعدم النقص فيه علامة على الخير وحسن السلوك والفضيلة «وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ». وقد يكون المعنى مجازيا، ليس فقط الأمانة في السوق بل أيضا في الحياة العامة. الميزان في كل شيء، والقسطاس المستقيم في كل سلوك «وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ». فالغش في الميزان علامة على الطغيان وعدم احترام حقوق الآخرين «أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ». فالطغيان ليس فقط في السياسة بل أيضا في الاقتصاد. ومن يتحكم بالرأي يتحكم أيضا بالسوق.
والمعنى الثاني أن الكتاب نزل بالحق والميزان. فالوحي ميزان للحقيقة وعدالة في الرؤية «اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ». الوحي إقرار للعدل في الدنيا ومنع للطغيان وليذكر الناس بالقسط «وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْط». الوحي والعدل صنوان، لذلك جعل المعتزلة من أصولهم التوحيد والعدل، وجعلوا العدل أساس التوحيد وليس القهر والقمع والظلم.والمعنى الثالث أن الميزان أساس الكون أيضا، وأن الكون يقوم على ميزان دقيق، «وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ». فالعدل ليس فقط في السلوك البشري ولكن أيضا في الكون «كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ». حركة الكون منتظمة، دوران الأرض، وتعاقب الليل والنهار، وشروق الشمس وغروبها. وكل شيء في الكون له وظيفته في الاتزان. الجبال رواس شامخات لاستقرار الأرض، والبحار ممتدة ليصعد منها البخار فتتراكم السحب فينزل المطر، وتخضر الأرض، ويأكل الحيوان والإنسان منها «وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُون».والمعنى الرابع هو الوزن الحق يوم القيامة، كل حسب عمله طبقا لقانون الاستحقاق «وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ». وهو الميزان الشامل لسلوك الإنسان في الدنيا وتقييم أعماله طبقا لقانون العدل. فالحياة اختبار. والبعث نتيجة لهذا الاختبار. والمعنى الخامس هو قانون العدل أو الاستحقاق. وهو الميزان القسط يوم القيامة، «وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ». فالموازين الثقيلة بالأعمال الصالحة نجاة، والموازين الخفيفة بالأعمال الصالحة هلاك «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ». ومن خفت موازينه يخسرون أنفسهم «وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ». من ثقلت موازينه يكون من الفالحين، «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»، ومن خفت موازينه يكون من الخاسرين. من ثقلت موازينه يكون في عيشة راضية «فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ». وأما من خفت موازينه فهو من الهاوين. وتكون المسؤولية على أمه التي لم تقم بتربيته التربية الصحيحة «وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ. فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ». ومن حبطت أعماله ليس له وزن يوم القيامة أي ليست له قيمة «فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا».فالميزان صورة العدل كما هو موضوع ومحفور على أبواب المحاكم. وهو أيضا صورة العدل في الآخرة منذ قدماء المصريين ووزن أعمال الميت، أعمال الروح. فالميزان في حياة الإنسان، في الدنيا والآخرة، وفي الطبيعة والكون. لا فرق بين الذات والموضوع، بين الدنيا والآخرة. فالميزان واحد وعام وشائع مهما اختلف الزمان والموضوع.* كاتب ومفكر مصري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء