إن «انقلاب» النظام الدولي لم يحدث بعد، وإن كان العالم قد مل من ظاهرة «القوة الأحادية» التي تنفرد بالقرار باسم المجتمع الدولي، وليس لدى أوروبا من خيار غير الوقوف صفاً واحداً مع الولايات المتحدة في غمرة صعود قوى غير غربية وغير بيضاء كاليابان والصين والهند التي ستكون قريباً في مقدمة القائمين بالانقلاب المقبل «الحقيقي» في النظام الدولي.

Ad

البعض يسميه صراعاً دولياً، والبعض الآخر يذهب إلى حد القول إنه بداية «لحرب باردة جديدة»، لكنه بالتأكيد بداية «تنافس» دولي، وربما وصل بعد حين، إلى ذاك المنحنى الخطر في غمرة سباق تسلح مستمر منذ أمد في الشرق الأقصى يذكر بالسباق الأوروبي الذي أدى إلى أسوأ حروب العالم.

أما أبرز وأخطر مؤشراته فهو الاعتراض الصيني الشديد على صفقة الأسلحة الأميركية إلى تايوان، ما أدى إلى «توتر» في العلاقات بين القوتين في وقت يحاول فيه الطرفان الصينيان، في البر الكبير والجزيرة، عبر مضيق تايوان، تجسير الفجوة بينهما بالإكثار من الزيارات والاتصالات، فقد أعلنت الصين قطع التواصل العسكري بين القوتين، بينما تقول واشنطن إنها مجرد أسلحة «دفاعية».

تحدث هذه «الأزمة» بين القوتين الاقتصاديتين العظميين في العالم، والرئيس الأميركي يهدد الصين بإجراءات مضادة في مجال التجارة، ونعتقد أن العلاقات بين القوتين يمكن أن تزداد توتراً في ضوء التنافس الاقتصادي الذي هو أساس الحروب... والملاحظ أن الصين تؤسس لاستثمارات هائلة في النفط والموارد الطبيعية في إفريقيا والخليج، ولابد في النهاية من وجود عسكري لحماية هذه الاستثمارات.

وتواصل الصين صعودها، إن لم تكن قد وصلت في بعض المجالات، إلى الدرجة الثانية عالمياً بعد الولايات المتحدة، متفوقة بذلك على جارتها وغريمتها: اليابان التي ستتركها، حسب التوقعات، في الدرجة الثالثة، بعد تقدم ياباني في مطلع النهضة على الصين في التحديث والتنمية.

وفي خضم النمو الاقتصادي الصيني الحالي تزداد الفجوة بين من يملكون ومن لا يملكون، وتسبب توتراً داخلياً قد ينعكس في السياسة الخارجية، وثمة دراسات في الخلفيات الصينية تذهب إلى القول إن الصين قد لا تحافظ على صعودها «الناعم» طوال الوقت ولن تحتفظ بـ»نعومتها إلى مالا نهاية»، وإنها في لحظة الحسم قد تبدي سلوكاً مختلفاً آخر عندما تشعر بأنها قد بلغت الدرجة الكافية من القوة اللازمة لمثل هذا السلوك الذي كانت له «سوابق» في التعامل مع الولايات المتحدة ويتكرر اليوم في اعتراض الصين على السياسات الغربية لفرض «عقوبات» على إيران بشأن ملفها النووي. والبعض يتساءل من جانب آخر: إذا كانت الأسلحة الأميركية إلى تايوان «دفاعية» حقاً، فلماذا تنزعج بكين، هل تفكر يوماً ما في «الهجوم»؟!

وتقديرنا أنه سيتصف النصف الثاني من القرن الحالي، بازدياد هذا التنافس بين القوتين العظميين في العالم: الولايات المتحدة والصين وربما أصبحت قضية تايوان محور هذه المواجهة، بينما يحاول الدلاي لاما، الزعيم الروحي للتبت، الاستفادة من الوضع الجديد.

وتعد واشنطن لمثل هذه المواجهة «تنسيقاً» دفاعياً يمكن أن يمثل نوعاً من الالتفاف حول الصين تشارك فيه كل من اليابان التي تتحسب للنمو وللمنافسة الصينية كثيراً، ومثلها الهند الصاعدة على الجانب الآخر والتي تحاول حل مسألتها الحدودية مع العملاق الصيني، كما تتابع بحذر نمو التحالف بين الصين وباكستان التي تعتبرها الهند غريمها الأول وإن كانت واشنطن تحاول «التهدئة» بينهما.

وتشير التقارير إلى أن كلاً من الصين والهند لم تخفضا موازنتهما العسكرية رغم الأزمة المالية العالمية.

ويمكن أن تنضم أستراليا إلى هذا «التنسيق» بين اليابان والهند، اللتين تتنامى العلاقات بينهما، حيث يغلب الشعور لدى سكانها من أصول بريطانية وغربية بأنهم جزء من «التحالف الغربي» وتساورهم مخاوف مستقبلية من استقواء المد «الآسيوي» المحيط بهم. وربما كانت إندونيسيا وماليزيا في عداد «الحلفاء» المحتملين للولايات المتحدة ضد «التمدد» الصيني الذي يشمل مسلمي المنطقة الغربية من الصين!

أما روسيا فقد غيرت أيضاً من سياستها حيال واشنطن وإن لم يكن على الطريقة الصينية، ومن هذه الزاوية، فالراصد يرى كأساً نصفها فارغ ونصفها مليء ويعتمد كيف ينظر إليها؟

بعد «تفكك» الاتحاد السوفييتي الذي نعتقد أنه كان قراراً ذاتياً، اختطت روسيا في البداية سياسة «المهادنة الكاملة» مع واشنطن، ولكن حرب جورجيا أدت إلى سياسة روسية جديدة حيال الغرب بعامة الذي يمكن القول إنه لم يتبع مع موسكو المثل القائل «ارحموا عزيز قوم ذل»! وانتهز الوضع الجديد ليحاصر روسيا من كل الجهات.

عادت روسيا، اليوم، إلى بيع السلاح لمنافسة بائعي السلاح الغربيين بما يعنيه ذلك من نفوذ سياسي وعسكري متجدد، كما أن روسيا، تفكر لأول مرة في تاريخها الحديث، شراء قطع حربية (من فرنسا)، كما تشير الأنباء، من دون إخفاء «نواياها» لاستخدام القطع الحربية التي ستشتريها ضد كل من يدخل في نزاع مسلح معها، بما في ذلك جورجيا! (فروسيا دولة نفطية غنية تملك موارد هائلة من النفط والغاز الطبيعي، وأي ارتفاع في أسعار النفط يمكن أن يمدها بالقوة!).

غير أن روسيا، التي تعمل على تحديث جيشها، لا تستخدم القفازات الحديدية مع العواصم الغربية إلا إذا لزم الأمر، وشعرت بما يتجاوز مصالحها.

وهي تتبع مع «أصدقائها» الجدد في الغرب سياسة «العصا والجزرة»، فموسكو التي سحبت الدبابات السوفييتية أخذت تمد أنابيب الغاز الطبيعي، المرغوب فيها والمرحب بها، في كل أنحاء أوروبا وغيرها... وهذا هو أساس السياسة الروسية الجديدة... أنابيب الغاز بدل الدبابات! ولا تبدو في الأفق بين روسيا والصين غيوم ملبدة، ولكن موسكو من واقع تجربتها المريرة مع بكين، لا يمكن أن ترتاح لنمو القوة الصينية الهائلة على حدودها الشرقية الجنوبية، وإن كانت تريدها «رادعاً» ضد النفوذ الغربي المتنافس معها في العالم!

إن روسيا، في علاقاتها الدولية حالياً، في «منزلة بين المنزلتين»، فهي مثلاً «منفتحة» على التفكير الجديد في البيت الأبيض، وتجري مفاوضات مع واشنطن لخفض ترسانة الأسلحة النووية.

وربما أيدت العقوبات الأميركية-الأوروبية ضد إيران، لكنها في الوقت ذاته ليست منقطعة الصلة بها، وهي ماضية في بيع السلاح لمن يدفع!

إن «انقلاب» النظام الدولي لم يحدث بعد، وإن كان العالم قد مل من ظاهرة «القوة الأحادية» التي تنفرد بالقرار باسم المجتمع الدولي، وليس لدى أوروبا التي تخطط لجيش أوروبي من خيار غير الوقوف صفاً واحداً مع الولايات المتحدة في غمرة صعود قوى غير غربية وغير بيضاء كاليابان والصين والهند التي ستكون قريباً في مقدمة القائمين بالانقلاب المقبل «الحقيقي» في النظام الدولي. فذلك تحول تاريخي لا مفر منه، كما أنه لا مفر من نظرية هانتينغتون في صدام الحضارات سياسياً فيما يتعلق بجانبها هذا... ومن الجدير بالتذكر أن المفكر الأميركي الراحل لم يخص العالم الإسلامي وحده، بل ذكر معه الصين، وهي «قوة في الصراع» أما العالم الإسلامي فمازال «ساحة للصراع»، وثمة فارق استراتيجي بين المفهومين لابد لنا من تبينه.

وأمام هذا الوضع المتشابك لا تستطيع روسيا الانحياز إلى قوتي آسيا، فهي مهددة، بشكل أو بآخر، بالإسلام وبالصين معاً، وفي التحليل النهائي فروسيا دولة أوروبية غربية بيضاء، وكان طموح نخبها الدائم، منذ بطرس الأكبر، أن تصبح بلداً أوروبياً، كما ترتبط مصالحها الحيوية اليوم، كتصدير الغاز مثلاً، بأوروبا قبل غيرها، وثمّة تميزات خاصة بها، ولكن في الإطار العام هي قوة «احتياطية» للغرب في عالم بدأت تسوده القوى غير الغربية.

والمفارقة أنه مع مؤشرات «التوتر» الدولي الذي قد ينتهي بعد تسويات مصلحية، ثمة مؤشرات ومصالحات عربية وإقليمية توحي باقتراب «الانفراج»، إن تحقق...!

ويبقى، هل الجهات العربية المعنية متابعة لهذه المؤشرات؟ وهل ثمة تقييم موضوعي لها، إن كانت لمصلحة العرب في قضاياهم الملحة أم على العكس من ذلك؟... وما الذي يمكن عمله بهذا الشأن، خصوصاً أن العرب يتهيؤون لعقد قمتهم المقبلة قريباً؟

* مفكر من البحرين