أحياناً يتربس الدماغ. يحرن كما يحرن الحمار البصراوي. تدفعه، تجرّه، تضع له البرسيم في يدك وتمشي أمامه كي يتبعك، ولا فائدة ولا عائدة. والكتابة تختلف عن أي شيء وعن كل شيء. فالمقالة قصيدة، والكاتب شاعر. ولا يشبه الكتابة الصحافية اليومية أو شبه اليومية، بصورة أو بأخرى، إلا المساجلة الشعرية التي تتطلب ذهناً أصفى خد اللي في بالي.

Ad

واليوم، كتبت ومسحت، وكتبت ومسحت، وكتبت ومسحت، إلى أن تجرّح لون صفحة الكمبيوتر، وشربت فناجين قهوة لو شربها دبّ في ألاسكا لبكى بكاء الثكلى ولتفنجلت عيناه، ودخّنت من السجائر ما لو دخّنها بركان آيسلنده لكحّ وتورّمت رئته، وذرعت الغرفة رواحاً ومجيئاً، ومشيت مشياً لو مشته إبل بني هلال لأصيبت بالكساح وشلل الأطفال. ولولا الخوف من الزميل الكردي ناصر العتيبي، سكرتير التحرير، لاعتذرت عن الكتابة اليوم.

ثم خطرت على بالي حيلة، وهي أن أكتب المقالة على شكل فقرات منفصلة، لمواضيع منفصلة، لا علاقة لموضوع بآخر، كما يفعل بعض الزملاء، من باب البحث عن الأسهل، أو أن أضع أخباراً وأكتب تعليقاتي عليها، فخجلت خجل العروس ليلة زفافها، وتذكرت جذوري اليمنية، وتذكرت أن اليمنيين هم أفصح مَن على ظهر الأرض ومن في بطنها، وهُم ملوك الكلام حديثاً ونثراً وشعراً. وكان «حسّان» التبّع اليماني، أي الملك المتبوع، ملك الملوك، مهووساً بالفصاحة والشعر والسجع، وكان يأمر جنوده أن يذهبوا إلى السوق ويأتوا بعشرة رجال، أول عشرة يمرّون من أمامهم، فيأمر العشرة هؤلاء أن ينظموا قصائد في الحال عن موضوع يختاره هو! فيقول مثلاً: «انظموا قصائد في حصاني»، أو «في غانيتي الجديدة»، أو «في المطر البارحة»، وهكذا، فينظموا، فيخلع عليهم، ولو كنت أنا معهم لخلع عليّ نعله. وكان أهل الجزيرة إذا امتدحوا فصيحاً قالوا «أفصح من يماني».. فكيف، وأنا سليل هؤلاء الكلمنجية الأفذاذ، يعجز نسر فكري عن التحليق على شواهق القمم، ويتحوّل إلى ديك كهل يغازل دجاجات الكلام فتنفر منه وتشتمه؟