من المفارقات العجيبة التي تستدعي وقفة تأمل ومراجعة وإعادة تشخيص لمجمل الواقع السياسي الكويتي مفهوم المعارضة في إطارها الفكري والثقافي والميداني، فإذا تتبعنا تاريخ المعارضة السياسية الكويتية وبغض النظر عن رموزها وشخصياتها منذ بدايات العمل بالدستور حتى اليوم، سنجد أن مطالباتها وأطروحاتها داخل وخارج البرلمان متطابقة إلى حد كبير رغم الاختلاف الشديد في الظروف الاجتماعية والاقتصادية على مدى نصف قرن من عمرنا السياسي الدستوري.

Ad

فمع بدايات عقد الستينيات كانت المعارضة السياسية ممثلة غالباً في التيار الوطني الليبرالي ومجموعات تجارية رئيسية تملك رصيداً شعبياً كبيراً، بل إنها كانت محط إعجاب النخب والجماهير في الخليج والعالم العربي، ومن المفارقات أن المعارضة آنذاك والتي كانت تتبنى الطرح الاشتراكي حريصة على مجموعة مبادئ ومطالبات متوافرة أصلاً بل وفي قمتها، فكانت المكتسبات الدستورية مطلباً أساسياً رغم ولادة الدستور، وكانت الحريات العامة ركيزة رغم بزوغ فجر الديمقراطية، وكانت دعوات تقسيم الثروة مبدأ رئيسياً رغم انطلاقة عهد التثمين وتأميم النفط.

ومن المفارقات أيضاً أن المعارضة كانت سليطة اللسان وحادة الأسنان في المطالبة بمزيد من الاقتراحات الشعبوية من زيادة رواتب والارتقاء بمستوى معيشة المواطن والاهتمام بالصحة والتعليم والإسكان في وقت كانت مستشفيات الكويت الأفضل والأكثر عربياً وكانت جامعة الكويت وحيدة زمانها في المنطقة، وكتبنا المدرسية تدرس في منطقة الخليج، وشوارعنا الأفخم في عموم العالم الثالث، والتوظيف فورياً لمن يحمل شهادة أو من دونها، والرواتب والأجور جعلتنا في المركز الأول عالمياً حتى بدايات السبعينيات، ومع ذلك لم تكن تلك المطالبات توصف بأنها دغدغة للمشاعر أو تكسب انتخابي أو هدر للثروة!

وبالعكس، كانت المعارضة فوق ذلك كله نشطة تماماً في الجانب الرقابي وكانت تحاسب الوزراء من الشيوخ وأبناء العوائل على الفلس دون أن تتهم بالتأزيم والتصعيد، بل وسط تصفيق وحماس شعبي يترجم تباهي الكويتيين بالديمقراطية ذات العين الحمراء والمعارضة الشجاعة والبطولية والوطنية!

وفجأة انقلب الحال، وبقدرة قادر تغيرت النظرة إلى المعارضة رغم بقاء مادتها وتغير رموزها، فأصبح الصوت العالي المطالب برفع مستوى المعيشة للمواطن مزايدة، وصارت كلمة تحسين الخدمات العامة ونقد التردي في الصحة والتعليم تأزيماً، وتحولت الرغبة في إنقاذ مئات الآلاف من الأسر الكويتية من مستنقع فوائد القروض الجائرة مجرد مكاسب انتخابية، والدعوة إلى زيادة رواتب المتقاعدين عشرة دنانير دغدغة مشاعر، والتصدي لمخربي البيئة والمطالبة بمساكن للمواطنين هدراً للأموال العامة!

أما العجب العجاب فقد تحولت المساءلة السياسية والتلويح بها في عهد تفشي الفساد الإداري والمالي والتجاوزات المليارية جريمة من شأنها تهديد الاستقرار الوطني وشق الوحدة ووضع البلاد على حافة الهاوية الظلماء!

والسؤال الكبير أمام هذه المفارقات: ما الذي تغير ليجري هذا التحول الجذري في الثقافة المجتمعية، خصوصاً تجاه المعارضة السياسية؟ فالحكومة هي ذات الحكومة بفلسفة تشكيلها ونمط المحاصصة فيها وطريقة أدائها وبيروقراطيتها، والمعارضة في شقها النظري على الأقل هي نفسها من حيث مطالباتها الشعبية وتفعيل الرقابة والمحاسبة مع فارق واحد متمثل في تدهور مستويات الخدمات العامة عموماً ونشاط مافيا الفساد المالي الموثق من خلال لجان التحقيق الرسمية والعالمية، ومع ذلك صارت المعارضة مذمومة وكريهة.

وقد يكون أحد الإجابات عن هذا السؤال أن الذي تغير فقط هو مواقع الرجال، وتلك المواقع وأولئك الرجال سحبوا معهم جمهورهم ومؤيديهم وأحزابهم وتياراتهم، فانعكست الآية، وفي هذا تفصيل نسأل الله أن يوفقنا لبحثه في المستقبل القريب.

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء