لماذا تستهدف الجماعات والنظم السياسية الدينية الشمولية التضييق على المرأة؟ ولماذا تريد فرض الوصايا عليها وتقييدها ومحاصرتها؟ ولماذا تسعى تلك الجماعات والنظم إلى التدخل في أخص خصوصيات المرأة؟ ولماذا تصرف كل جهودها من أجل عزل المرأة عن المشاركة في الحياة العامة؟ ولماذا تستمر تلك الجماعات والنظم ترى في المرأة حبلاً من حبال الشيطان ومصدراً للغواية والإفساد؟ وأخيراً، لماذا النظرة الدونية للمرأة؟
هذه التساؤلات مطروحة على خلفية القبض على الصحافية السودانية «لبنى أحمد الحسين» الكاتبة في جريدة «الصحافة» والموظفة في بعثة الأمم المتحدة للسلام في السودان، بتهمة ارتداء ملابس «فاضحة» أو «غير محتشمة» وترجع أصول القضية إلى أن الصحافية كانت تشارك مع زميلاتها وزملائها في احتفال عام حضره 300 شخص، وفجأة يتم اقتحام المكان بقوات الشرطة لتلقي القبض على الصحافية وزميلاتها اللاتي يرتدين البنطلون ويتم اقتيادهن إلى المخفر.وذكرت «لبنى» أنه بعد يومين من الواقعة تم استدعاء عشر من النساء الـ13 إلى مركز الشرطة، حيث جلدت كل واحدة منهن عشر جلدات رغم أنهن غير مسلمات مع غرامة مالية مئة دولار، أما «لبنى» وزميلتان فقد رفضن الاتهامات وطلبن محامين فأحيلت القضية إلى المحكمة، حيث يحاكمن بموجب المادة رقم 152 من القانون الجنائي السوداني، والتي تنص على عقوبة 40 جلدة وبشكل علني، وصرحت «لبنى» بعد أن تنازلت عن «الحصانة» الدولية باعتبارها موظفة في بعثة الأمم المتحدة، أنها تريد خوض معركة قانونية لإثبات عدم دستورية هذا القانون الذي يحاكم النساء بالجلد، وقد تحول قضيتها إلى قضية «رأي عام»، إذ قامت بإرسال آلاف الدعوات إلى كل النشطاء والحقوقيين لحضور جلسة المحكمة وحفلة الجلد إذا ما أدانتها المحكمة، وسوابق الأحكام في قضايا البنطلون طالت آلاف الفتيات السودانيات، وكانت دائماً 40 جلدة، إضافة إلى وصمة العار التي تلحق بالفتاة.وأثارت قضية «لبنى» ردود أفعال كبيرة داخلياً وخارجياً، حيث وصفها قانونيون بأنها محاكمة جائرة لا تتفق مع مواثيق حقوق الإنسان، واشتركت المؤسسات المعنية بحقوق الإنسان في حملة دولية لجمع توقيعات لمنع عقاب الصحافية، وأعرب الأمين العام للأمم المتحدة عن قلقه إزاء ما تتعرض له الصحافية السودانية، وقال إنه ملتزم اتخاذ كل الإجراءات اللازمة لحماية الموظفة، ومنع تعرضها للخطر، وقد تأجلت المحاكمة إلى سبتمبر ومنعت الصحافية من السفر، لكن المجتمع السوداني وكذلك الدولي يرتقب المحاكمة المذكورة، وللمرء أن يحتار ويتساءل: ما هذه الملابس الفاضحة والخادشة للحياء العام؟! ووفق أي معيار شرعي توصف هذه الملابس بأنها فاضحة؟ لقد تناقلت وكالات الأنباء صورة الصحافية بملابسها التي قالت عنها شرطة النظام العام والمعروفة بشرطة «أمن المجتمع» بأنها فاضحة، والصورة تبين بكل وضوح أن ملابس الصحافية هي: بنطلون فضفاض وقميص واسع بأكوام طويلة، وطرحة تغطي الرأس والكتف، وللمرء أن يتساءل هل هذه ملابس فاضحة؟! إذن ما الزي المحتشم في عرف النظام السياسي الإسلامي السوداني، وفي مفهوم شرطة «أمن المجتمع»؟! المعروف أن شرطة «أمن المجتمع» نسخة سودانية من «هيئة الأمر بالمعروف السعودية» تأسست مع قيام حكومة البشير 1989، ومهمتها ملاحقة النساء للتأكد من أن ملابسهن غير فاضحة ومنع الخلوة والاختلاط واستيقاف أي امرأة بصحبة رجل للتأكد من الرفقة الشرعية.وألقت شرطة أمن المجتمع في العام الماضي القبض على 40 ألف حالة، حيث يؤخذ على النساء تعهدات بعدم تكرار المخالفة، إن مشكلة «ملابس المرأة المسلمة» قضية تحتل حيزاً كبيراً في عقلية كل النظم والجماعات الدينية التي ترفع راية الإسلام، وتنادي بتطبيق الشريعة بحسب مفهومها الضيق، بدليل أن مفاهيم كل نظام إسلامي للزي الشرعي للمرأة تختلف من نظام إلى آخر، فلا يوجد تصور موحد.فالنظام الإيراني فرض «الشادور» على المرأة عام 1979، وصدر قانون يعاقب بالجلد كل مواطنة لا تلتزم بالشادور، والنظام الطالباني عندما حكم أفغانستان فرض على النساء «البرقع» الذي يشبه السجن المتنقل على المرأة، ومنعها من الخروج إلا بصحبة محرم، ومنعها من التعليم والعمل، وهيئة الأمر بالمعروف السعودية فرضت النقاب على النساء وهي تلاحق السيدات «السافرات» وتأمرهن بالحجاب، وهو في عرف الهيئة، النقاب، وأما السفور وهي كشف الوجه، ويقوم رجال ملتحون تابعون لوزارة الأوزقاف تحت حكم «حماس» في غزة بمراقبة ملابس النساء، وحتى الرجال لا يستطيعون السير على شواطئ غزة دون قمصان تغطي صدورهم، ويطلب من أصحاب متاجر الملابس إزالة تماثيل عرض الملابس الداخلية، وقد أصدر رئيس القضاه الحمساوي أخيراً أمراً بفرض الحجاب على المحاميات الفلسطينيات.إن مشكلة زي المرأة، لا تقتصر على نطاق الدول الإسلامية التي اتخذت من شرطة (الفضيلة) وحماية أخلاق المجتمع، أداة للتجسس على الناس وملاحقة النساء وإلزامهن بالزي الشرعي وجلدهن في حالة المخالفة بل تجاوزت ذلك إلى أوروبا حيث تثير ظاهرة «النقاب» جدلاً واسعاً في أوساط العواصم الغربية. وهناك الكثير من اللغط بين الأوروبيين الذين ينظرون إلى هذه الظاهرة باعتبارها رمزاً للتعاطف مع الجماعات المتشددة، وتعبيراً عن كراهية الغرب، ومظهراً ومن مظاهر التحدي للاندماج، الأمر الذي يثير استياءً عاماً بين الأوربيين خصوصا الشعب الفرنسي الذي يرى في ذلك إساءة للقيم العلمانية للجمهورية الفرنسية، مما دفع الرئيس ساركوزي للقول «النقاب غير مرحب به في فرنسا»، وهناك احتمال صدور تشريع جديد يمنع النقاب في فرنسا، وهذا بدوره يثير استياء المسلمين الذين لايزالون مستائين من الحظر القانوني الذي تم تنفيذه عام 2004 ضد الطالبات اللاتي يرتدين الحجاب في المدارس الحكومية.وتبقى تساؤلات أخيرة: هؤلاء الذين ينشغلون بملابس المرأة ويجاهدون في سبيل إخضاعها وإلزامها بمفاهيمهم وتصوراتهم وأجندتهم السياسية، أليس الأولى بهم أن يجاهدوا في ميادين التنمية والمعرفة والإنتاج، وفي تحقيق العدالة وإنصاف شعوبهم وصيانة كرامتهم وإتاحة الحرية لهم؟!نحن مع الحجاب والاحتشام الشرعي كما أننا لسنا ضد النقاب كحرية شخصية للمرأة، لكننا ضد فرض زي معين على المرأة وضد معاقبتها بالجلد، ترى ما الرسالة التي تريد تلك النظم السياسية توجيهها لمجتمعاتهم وللعالم؟ وهل مما يشرف أنظمتهم ويساعد على تحسين صورة الإسلام، إنشاء شرطة دينية تلاحق النساء وتعاقبهن؟! المرأة إنسان مكرم من قبل خالقه، ويجب صيانة كرامتها وحمايتها من الإهانة والإذلال وتصحيح النظرة إليها، لماذا تنشغل تلك الأنظمة بملابس المرأة بالرغم من أزماتها ومشاكلها الداخلية؟ لماذا يتحول ارتداء البنطلون إلى جريمة؟! النظام الحاكم في السودان منشغل ببنطلون صحافية، ونظام «حماس» منشغل بفرض الحجاب على المحاميات، وإيران منشغلة بفرض «الشادور» على نسائها، والسؤال: لماذا تشكل ملابس النساء كل هذه الأهمية لدى تلك الأنظمة؟ هل هذا الانشغال دليل عجز ومظهر فشل تلك الأنظمة السياسية في تنمية مجتمعاتها أم تعبير زائف للتظاهر بأنها حريصة على حماية الفضيلة وحماية الأخلاق في المجتمع؟! الأقرب أن ذلك دليل فشل سياسي وإفلاس عام لتلك النظم الحاكمة والجماعات السياسية المتشددة في تقديم ما يساهم في تقدم وتنمية مجتمعاتها.* كاتب قطري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
مقالات
صحافية البنطلون هل يتم جلدها؟!
17-08-2009