في 15 يوليو يُفترض أن يقوم وزير الخارجية الهندي بزيارة إلى إسلام أباد بدعوة من نظيره الباكستاني، وذلك امتداداً للقاء «المصالحة» الذي تم بين رئيسي حكومتي البلدين في وقت سابق، مع إشارات من الجانبين إلى «الرغبة» في إنجاز «المصالحة»، التي يؤمَّل في تسهيلها بعد مؤتمر وزراء داخلية «جنوب آسيا» الذي ترأسه وزير الداخلية الباكستاني وشاركت فيه الهند.

Ad

ومنذ استقلالهما عام 1947 اشتبك البلدان الجاران في عدة حروب رغم كون شعبيهما الأفقر بين فقراء العالم، والدولتان اليوم نوويتان، ويعلم الله كم تصرف كل واحدة منهما من أموال الفقراء على التسلح لمواجهة «خطر» الجار غير الموثوق به!

هل يمكن أن تنسى باكستان أن الهند حاربتها لتفكيك كيانها؟ ثم «احتلالها» المتواصل لكشمير ذات الأغلبية المسلمة، وهل يمكن للهند أن تنسى أعمال «الإرهاب» القادمة من باكستان كما تقول، والتي أصابت عاصمتها التجارية وفنادقها في مقتل، وتطالب الهند جارتها المسلمة بالكشف عن المتسببين في ذلك ومحاكمتهم؟! هذا فضلاً عن «مناوشات» كثيرة أخرى نسمع عنها يومياً، وعن «الشحن» المزمن بينهما؟ وآخر ما ورد من «منغصات» بهذا الشأن إيقاف السلطات الهندية لسفينة كانت تحمل شحنات أسلحة يمكن أن يستخدمها «إرهابيون» إلى باكستان!

احتمال النسيان هو ما يراهن عليه الذين يعملون من أجل التقريب بين الرأسين: الرأس النووي الهندوكي، والرأس النووي المسلم! فهل يلتقيان؟ وذلك ما تراهن عليه أيضاً الدبلوماسية الخليجية، وقبل مدة قصيرة استقبلت الرياض رئيس وزراء الهند في زيارة تاريخية سبقتها في 2006 زيارة الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى نيودلهي، حيث تم رفع «التابو» عن العلاقة «الدينية» الحرجة بين البلدين، فقد كانت العلاقة المفضلة مع باكستان «الإسلامية»، أما الهند «الهندوكية»، فقد كان يُنظر إليها بعين الريبة، ولكن العلاقات بين الدول تحكمها المصالح المتبادلة أكثر من الشكوك المتبادلة! أو هكذا يفترض أن يكون عليه الأمر.

وقد كانت السياسات العربية، والصراع الإيديولوجي العربي في الستينيات والسبعينيات غير بعيد عن هذا «التصنيف» والتمييز بين الهند وباكستان.

فالهند كان مرحباً بها ضمن الاتجاه الراديكالي– بعد مؤتمر باندونغ الذي حضره عبدالناصر إلى جانب نهرو– كنموذج للعلمانية وعدم الانحياز، أما باكستان «المسلمة» فأصبحت تلقائياً حليفاً يُراعى جانبه لدى الدول العربية المحافظة، وكان الناس، في العالم العربي، يقفون الموقف ذاته من الهند أو باكستان حسب ميولهم الإيديولوجية.

إلا أن هذا التمييز والتقسيم أصبح من ذكريات الماضي الذي لابد من تجاوزه، فأعداء الأمس أصبحوا أصدقاء اليوم ضمن تغييرات جذرية شهدها المجتمع الدولي، (والتقارب بين اليونان وتركيا المتمثل في زيارة أردوغان إلى اليونان أخيراً واستمرار التقارب بين الصين وتايوان، من شواهد ذلك).

وهذا لا يعني إطلاقاً الوقوع في التفريق السابق بين الجارين الآسيويين الكبيرين، بل إقامة أفضل العلاقات الممكنة بينهما، وهو ما تعمل عليه السياسة السعودية في زمننا وتسعى إليه سياسات دول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة، وكذلك الدول العربية الأخرى.

وقد كان الفكر العربي في حيرة من استمرار نجاح الديمقراطية والفدرالية في الهند، التي يطلق عليها في القاموس الدولي، أكبر ديمقراطية في العالم (بحكم عدد السكان)، مع تعثر النظام الديمقراطي في توأمها الباكستاني، وإن خرج الاثنان من رحم الحياة المشتركة والنسيج الاجتماعي شبه الواحد، وإن يكن المتوتر، في شبه القارة الهندية.

وكانت بعض الاجتهادات العربية تذهب إلى حد القول إنه كان من الأفضل، ربما، لو بقيت المنطقتان الهندية والباكستانية في ظل نظام سياسي استقلالي واحد بانتهاء الوجود الأجنبي.

وكان الباكستانيون بالذات يعلقون على تلك الاجتهادات العربية بسخرية: فيقولون «اسمعوا من يتحدث... إنهم (أي العرب) في أكثر من عشرين دولة، ويطالبون باكستان أن تبقى دولة واحدة مع الهند!». وقد أصبح للعرب في السنوات الأخيرة مأخذ على الهند في تقوية علاقاتها- خصوصاً العسكرية– مع إسرائيل، والهنود يتساءلون وشعوب أخرى تساءلت ومن حقها أن تتساءل: ماذا جنينا من علاقاتنا الطيبة مع العرب، وانحيازنا للحق العربي؟!

وفي عالم اليوم، لم يعد للصراع من معنى، و»كفى الله المؤمنين القتال». لقد تحارب البلدان الجاران عدة حروب طاحنة لا تماثلها إلا حروب الجيران التي شهدها الخليج والعالم العربي في العقود الأخيرة. ولا يوجد شعب يهلل للحرب والدمار، إلا إذا كانت تقوده وتضلله قيادة لها أجندتها الخاصة المخفية عنه، وتعاني باكستان، بالذات، مشكلات كيانية كدولة، بينما «تتدهور» علاقتها- شعبياً- مع حليفتها التاريخية: الولايات المتحدة.

وقد وقعت أخيراً اتفاقاً استثمارياً ضخماً للغاز مع إيران علينا أن ننتظر لنرى إن كان سيصبح اتفاقاً إيرانيا باكستانياً مع الهند. هذا بينما تصعد الهند رغم فقر قطاعات عريضة من أبنائها كقوة عظمى في آسيا- إلى جانب الصين واليابان- تصعد من ناحيتين: المجال المعلوماتي الذي يمثل قوة المعرفة والمجال العسكري الذي أصبح مرحباً به في منطقة الخليج العربي كقوة توازن حيال إيران، خصوصا جانبها البحري.

وتعمل الولايات المتحدة ودول أوروبا- المعنية بتطويق الصين الصاعدة اقتصادياً وعسكرياً- على تقوية «الطوق» الآسيوي المحيط بها، خصوصا ركنيه الأساسيين: الهند واليابان، فالهند لم تعد خطراً على الغرب وحليفاً «للاتحاد السوفياتي» السابق في آسيا، عدا علاقات الصداقة التقليدية مع روسيا الاتحادية التي تصعد في العالم بوجه مختلف، والتي عملت على إصلاح علاقتها مع كل من الولايات المتحدة وبريطانيا أخيراً.

إن التقارب الهندي–الباكستاني المأمول خليجياً وعربياً ودولياً تعترضه عدة عقبات ليست بالهينة أو السهلة، وسيكون انهيار محاولة التقارب خبراً سيئاً لمنطقة واسعة من العالم. أولى هذه العقبات: النظر إلى مشكلة أفغانستان، فالهند تدعم نظاماً مختلفاً عن نظام «طالبان» ولها وجهة نظر «جذرية» من الصراع الدائر هنا. فهي «مع» هؤلاء و»ضد» أولئك. (وإن تكن الهند قد أصبحت مدعوة لاستثمار الثروات المعدنية الهائلة التي تم الإعلان عن اكتشافها أخيراً).

أما باكستان التي يعيش فيها عدد أكبر من قبائل الباشتون الموجودة في أفغانستان، والتي تمثل الخزان البشري لإمداد «طالبان» بعناصرها المقاتلة ضد الغرب وضد الهند، فهي مشدودة، بحكم هذا الواقع الاجتماعي البشري، وجهة مضادة. والحديث عن مصالحة «طالبان» تسعى إليه باكستان... وترفضه الهند رفضاً باتاً؛ وثانيتهما: نظرة كل من التيارين التاريخيين– الهندوكي المتطرف في الهند والإسلامي المتشدد في باكستان– وشكوكهما المريبة ومعارضتهما الشديدة لهذا التقارب المزمع. ومن الواقعية عدم التقليل من ثقلهما في البلدين، وإن كان الزمن يسير في اتجاه آخر... هذا مع الأخذ في الاعتبار– وإسلام أباد مدعوة للنظر ملياً في هذه الظاهرة– أن مسلمي الهند على كثرة عددهم أميل إلى الاعتدال والانفتاح داخل الهند أو عند ما يهاجرون إلى أوروبا.

أما العقبة الثالثة: فهي أن بعض دول الجوار لن تكون سعيدة أو مرتاحة لهذا التقارب، فالصين ستنظر إليه على أنه اختراق هندي، وبالتالي تجاوز، لحلفها التقليدي مع باكستان (ضد الهند!) وقد سارعت بكين إلى إمداد باكستان بمفاعلين نوويين في ظل غض نظر أميركي أولاً، ثم «مساءلة» خجولة بعد ذلك! وإيران من ناحيتها ستنظر إلى دخول الهند البحيرة الخليجية كقوة منافسة في ظل التباعد الجاري حالياً بين نيودلهي وطهران، (فأخطر ما يمكن أن يحدث لدول الخليج العربي هو تحالف القوتين أو تقاربهما بشأن الأوضاع الخليجية).

ويبقى أن التقارب والتقريب بين باكستان والهند هدف جدير بالمحاولة... لسبب بسيط: وهو أن استمرار الحروب لا يؤدي إلا إلى هزيمة الطرفين معاً، فلا غالب ولا مغلوب في أي اقتتال، والمنتصر الوحيد في النهاية هو الدمار!

* مفكر من البحرين