مع كل يوم يمر على الحراك الصاخب الذي تعيش فيه إيران تزداد قناعة أهل الاختصاص بوجود حيوية لافتة لدى المجتمع الإيراني من جهة وامتلاك الدولة الإيرانية صلابة وقوة الدول العريقة من جهة أخرى!

Ad

فلا المعارضة رغم «انفلاش» قواها الفاعلة وتداخل حراكها بين إرادة الداخل التغييرية وإرادة الخارج التخريبية دخلت في مرمى المحظور من سلوكيات العنف العدمي، ولا السلطة الحاكمة رغم كل مؤاخذات المعارضين الداخليين والأعداء الخارجيين عليها دخلت في الممنوع أو الخطير من إجراءات ممارسة «عنف» الدولة التقليدي المعروف!

وكل من يعرف إيران من الداخل جيداً يعرف تماماً أن ما جرى خلال الأسابيع القليلة الماضية ومر على إيران إنما جرى في إطارين أو مسارين اثنين:

الأول: وهو عبارة عن تشديد لمراجعات داخلية عميقة بدأت منذ نحو عقدين من الزمان على قاعدة أن التغيير لازمة حياتية للثورات عبرت عنها قوى المجتمع الإيراني الحية بصورة حضارية ملفتة كما أبرزت الوقائع والأحداث مجتمعة عن امتلاك جسم الدولة الإيرانية العريق لديناميكية خلاقة بمقدورها تجاوز مرحلة الأزمة باستمرار والعبور نحو شاطئ الأمان في نهاية المطاف.

الثاني: وهو تصاعد ملحوظ في حدة الصراع الأجنبي مع إرادة الاستقلال والتحرر الإيرانية في سياق الحرب المفتوحة بين الخارج والداخل منذ قيام الثورة الإسلامية الإيرانية في عام 1979.

ولما كانت إيران الداخل في الآونة الأخيرة تعيش في أوج ممارسة كفاحها المشروع من أجل انتزاع الاعتراف الدولي بحقها في الاستقلال من جهة، وذلك من خلال ثنائية أصولية المرشد الأعلى للثورة وحزم وصلابة الموقف السياسي العام للرئيس أحمدي نجاد، تماماً كما كانت تمارس كفاحها المشروع من أجل مجتمع حر ومتحرر من جهة أخرى من خلال آليات الديمقراطية الإسلامية الفتية والمفصلة على الطريقة الإيرانية اللاشرقية واللاغربية من جهة أخرى، فقد أغاظ ذلك الغرب العنصري والراغب في الهيمنة، وأثار حنقه ما جعله يصعِّد من مستوى الحرب المفتوحة على إيران بهدف خلط الأوراق في معادلة الداخل متأملاً في إحداث اختراق ملموس لمصلحة إنجاح استراتيجية زعزعة استقرار السلطة الحاكمة في طهران وتفتيت المجتمع الإيراني من الداخل في إطار سياسة تشجيع وإفشاء الحروب العرقية والإثنية والطائفية المتنقلة المعروفة بالفوضى الخلاقة أو الثورات المخملية كما صار يطلق عليها في الآونة الاخيرة بعد تغيير جلدها!

لكن إيران «الخمينية» المتجددة بزعامة آية الله علي خامنئي كانت له بالمرصاد على ما يبدو، فلم توفر له ما أراد رغم قساوة التجربة وما رافقها من صخب وضجيج دعائي كانت قد أعدت له امبراطورية «عاجل» الإعلامية الأخطبوطية والعنكبوتية الناعمة!

اذ كما كان الغرب الإمبراطوري يحضِّر لهذه الساعة الموعودة كانت القيادة الإيرانية العليا على ما يبدو مستعدة لساعة المواجهة «الناعمة» تلك، فكان ما كان من استنهاض انتخابي هو الأول من نوعه في تاريخ الانتخابات حتى تلك العريقة في ديمقراطياتها وذلك من خلال مشاركة نسبة الـ 85 في المئة، الأمر الذي لم يكن يتوقعه لا الداخل التغييري ولا الخارج التخريبي.

وهنا اضطر الخصم اللدود للكشف عن خطته الأصلية والتي تبينت أبعادها على امتداد الأسابيع الماضية والتي كانت تقوم على خطة:(تغيير الأفكار ثم تغيير السلوك ثم تغيير الهيكلية)

وهي الخطة التي كانت تقضي بدفع النظام والسلطة الحاكمة إلى اللجوء إلى تكرار نموذج «تيانانمين» الصينية المعروفة، أي الدفع بسلطات طهران لقمع جموع المتظاهرين بالقسوة والوحشية المطلوية لبلورة المشهد المطلوب غربياً.

لكن لجوء طهران إلى ما صار يعرف بنموذج «7 آيار» اللبناني الشهير، أي إلى نوع من العملية الجراحية القيصرية لوقف مخطط الاستنزاف الداخلي بأقل الأكلاف الممكنة، أحبط مرة أخرى مخطط الخارج المتربص بالتجربة الإيرانية كلها.

في هذه الأثناء، فإن إيران الدولة الفتية والتجربة الجديدة الخارجة على المشهور والمألوف من التجارب العالمية المعروفة، تكون قد دخلت مرة أخرى في حركة تصحيحية إصلاحية تنبع من ثوابتها القيمية الخاصة بها.

إذ بعد تجربة «الإسلام أولاً»، التي قادها الزعيم المؤسس آية الله الموسوي الخميني، ومن ثم تجربة بناء الدولة العتيدة التي كان شعارها «إيران أولاً»، والتي التصقت باسم الرجل الثاني على الدوام الرئيس الأسبق ورئيس «مجلس تشخيص مصلحة النظام» حاليا آية الله أكبر هاشمي رفسنجاني، ومن ثم تجربة «الديمقراطية أولاً» التي طبعت باسم الرئيس السابق محمد خاتمي، فإنه جاء دور المشروع الإسلامي التحرري العالمي أولا بزعامة المرشد الأعلى الحالي آية الله علي خامنئي.

وإذا ما أردنا أن نؤرخ لهذه المرحلة، فإننا نستطيع أن نقول عنها إنها بدأت عمليا منذ ظهور الرئيس الحالي محمود أحمدي نجاد على المسرح العلوي للسلطة، مدعوما بدعم المرشد الأعلى وحماية مؤسسات الثورة الأساسية وعلى رأسها حرس الثورة الإسلامية.

وهنا بالذات يكمن جوهر الصراع المحتدم والمفتوح على مصاريعه حالياً بين مشروع الإسلام التحرري والرؤيوي الذي يقوده المرشد خامنئي والقاضي ليس فقط بتعزيز قوة إيران الدولة فحسب، بل تعزيز كل قوى التحرر والمقاومة والممانعة المؤتلفة أو المتحالفة مع إيران إقليمياً ودولياً إن على مستوى القوى الحرة أو على مستوى الدول من جانب، وبين مشروع الدولة الإمبراطورية الأميركية المنافحة عن المشروع الصهيوني العنصري ومحاولة فرضه سواء بالقوة الخشنة أو بالقوة الناعمة منذ عهد بوش المحافظ وصولا إلى عهد أوباما الديمقراطي، على الجانب الآخر!

إنه الصراع الذي طبع ولايزال يطبع كل حراك المنطقة الصاخب منذ عقود، وليست حوادث إيران الداخل الأخيرة سوى فصل جديد من فصول هذا الصراع الذي سيظل محتدماً ومتفجراً على مستوى المنطقة برمتها ما لم تذعن الولايات المتحدة الأميركية نهائياً بخسارتها لمشروع فرض الكيان الصهيوني المغتصب على قوى المنطقة الحية، والتي أخذت قرارها النهائي بوعي على ما يبدو هذه المرة بخوض هذا الصراع حتى الفصل الأخير منه، أي تفكيك هذا الكيان والمعسكر النشاز ونقل أجزائه المتناثرة إلى خارج المنطفة تماماً.

وهنا بالذات تظهر إسرائيل في أحرج أيامها على الإطلاق، فلا هي قادرة على تحمل أعباء مثل هذه الحرب المفتوحة، وقد باتت بعض فصولها تجري على تخومها من جهة، ولا هي قادرة على اتخاذ قرار الدخول على خط المواجهة مباشرة من خلال قرار يعتبر الأكثر مغامرة في تاريخ إسرائيل ألا وهو توجيه ضربة عسكرية لإيران في محاولة لوقف تقدم مشروعها!

* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي - الإيراني