الموت حق على كل حي، ليس منا من هو مخلد أبد الدهر، بل جميعنا نسير نحوه ونقترب منه مدركين أنه قادم لا محالة في أي ساعة أو لحظة ولسبب نعرفه أو لا نعرفه، قد يكون من خلال مرض خطير، أو حادث مفاجئ، أو جريمة قتل مروعة، أو كارثة جوية، أو حريق كبير، أو حالة حرب، أو أي سبب آخر لا يخطر لنا على بال أو نتوقعه أبدا، لكن النهاية واحدة هي الموت... تلك الرحلة المرعبة التي لا عودة بعدها!

Ad

وكما قال الشاعر القديم:

من لم يمت بالسيف مات بغيره ...   تعددت الأسباب والموت واحد

ولذلك نجد من السفاهة والجهل وقلة العقل والأدب والتربية والذوق، أن يشمت إنسان "علنا" بموت إنسان آخر، لا لشيء سوى أنه قد خالفه في الرأي والفكر وكان يدافع عما يعتقد بقوة وقدرة يعجز عن مواجهتها خصومه الذين لجؤوا إلى تكفيره وتفريقه عن زوجته، والسعي إلى عدم إدخاله إلى بلدانهم خوفا من المواجهة التي يعلمون نتيجتها، ولذلك وجدوا في موته حفلة شماتة لا تفوت لتلعلع ألسنتهم وترقص قلوبهم وتسكر عقولهم- إن وجدت- فرحا وشماتة، وكأن الشامتين "البله" سيخلدون إلى الأبد ولن يطولهم الموت بعد "أبوزيد" أبدا!

نعم... لقد توفي المفكر الكبير "نصر حامد أبوزيد" بسبب فيروس غامض- حسب التقرير الطبي- فرقص أعداؤه طربا وراحوا بسذاجة متناهية يذكرون الناس بالنمرود ومصيره وبفرعون وموته، وبأن الله يمهل ولا يهمل، وأنه تعالى قد اختار لعدوه أبوزيد من دون الناس جميعا هذا الفيروس الحقير ليكون سببا لموته مقدما شهادة جديدة لكل معتبر على قدرته على الانتقام من أعدائه، وليجعله مثلا لكل من يخالف إجماع "علماء الأمة" على ما اتفقوا عليه من تفسيرات وتأويلات "أثرية" يعود تاريخ معظمها إلى عشرة قرون مضت أو أكثر دون أن تتبدل أو تتغير، حتى أتى "أبوزيد" ليخالفها وحده، مرتكبا جريمة التفكير بما خطه الأقدمون... في زمن التكفير الذي لا يرحم من يفكر!

هؤلاء الشامتون في موته بفيروس غامض، يجهلون مصيرهم المحتوم وليس لديهم أدنى فكرة عن كيف سيموتون مستقبلا، ولا يعلم أحد إن كان سيموت بفيروس كفيروس أبوزيد، أم سيموت مطعونا بسكين، أو مخنوقا بحبل، أو مدهوسا تحت عجلات سيارة، أو صريع جلطة دماغية، أو ضحية سرطان خبيث، أو بين جدران سجن مظلم، هناك مليون احتمال للموت كل واحد منها أسوأ من الآخر، ولو خير المرء بينها لاحتار ماذا يختار منها وماذا يترك!

الموت مجنون أعمى... لا يرى في طريقه مؤمنا أو كافرا، ظالما أو مظلوما، عالما أو جاهلا، وقد يموت المجرم الفاسد وهو نائم أحلى ميتة، ويموت الكريم الشهم ميتة عذاب وشقاء ومعاناة لا حد لها، فلا علاقة بصفات ومكانة وأخلاق المرء بكيفية موته، وهو أمر، يفترض بأقل الناس عقلا أن يدركه ويفهمه جيدا من خلال ما يرى ويشاهد من طرق تساقط الموتى من حوله، لكن ماذا نقول لأناس لا عقول لهم، ولا حس، ولا ذوق، بل ولا حتى أدنى درجات الإدراك، يحملون فوق أكتافهم رؤوسا خلت من كل شيء سوى الرغبة في الانتقام من رجل رحل عن دنياهم وتركهم ليتمتعوا بها... حتى حين!

لعلكم تتذكرون الداعية الإسلامي الكبير أحمد ديدات، هذا الرجل الذي أفنى عمره في الدعوة للدين الإسلامي، من خلال محاضراته الكثيرة ومناظراته الشهيرة وكتبه العديدة التي كان لها أكبر الأثر في دخول عشرات وربما مئات الآلاف في هذا الدين، فهل تعرفون كيف مات هذا الداعية العظيم؟! لقد مات بعد معاناة شديدة لمدة جاوزت عشر سنوات على فراش المرض وحيدا مشلولا بعد إصابته بجلطة دماغية شلت جسمه بالكامل تقريبا، ولم يعد يتحرك في جسمه سوى عينيه، فهل كان- حين اختار له الله هذه الميتة- ينتقم من عبده الصالح المخلص؟! بحسب منطق الشامتين بالموت "نعم".. ولا حول ولا قوة إلا بالله!

الذين تشفوا وشمتوا بموت المفكر الكبير نصر حامد أبوزيد لا يعلمون أنه- ولسوء حظهم- رغم موت جسده سيبقى حيا دائما من خلال نتاجه الفكري الذي جدد به الموروث الديني وحرك مياهه الراكدة منذ قرون، وهذه هي سمة العلماء العظماء أنهم يموتون جسدا ويحيون فكرا!

رحمك الله أيها المفكر الرائع وأسكنك فسيح جناته... ستبقى في قلوبنا وعقولنا رغما عن أنف كل حاقد جاهل يرفض الخروج من ظلام القرون البائدة!