من الشرفة أتابع الليل المنحدر كغلالة تُسدل فوق رؤوس أشجار الصنوبر المحتشدة بكثافتها، وبالظلام الهاطل عليها من سماء ما زالت منارة بتوامض بقايا الضوء المنسرب من النهار، وبأضواء بيروت المتراقصة على صدر البحر، وعلى الشوارع المقصية، ونوافذ البيوت المختبئة في البعيد، وعلى هذا الطريق الجبلي الضيق الراكض في انحداره إلى ملتقى الشارع العام، وهذا الليل القابع في صمته والملتف في سكينة يوم الأحد، وإلى هذه المشاعر المتناقضة الجياشة في صدري والملتبسة في الغموض المتراوح ما بين الإحساس الواضح، والهارب من الوضوح.

Ad

هذا الليل النازل على صدر هذا الزقاق الملتوي في انحداره وبفوانيس الإضاءة المعلقة على مفاصل الطريق، يثير في إحساسا معتقا في شجنه، مربوطا في ليل كل المدن العربية، في أزقتها وشوارعها وبيوتها، ورائحة نسيمها وترابها، وفوانيسها الناعسة في المفارق وعلى أبواب الدكاكين.

ليل هذا الطريق الجبلي كأنه ليل منبعث من الخلايا ومن الجينات الموشومة به منذ مليون عام، لا أشعر بأنه يخص هذه اللحظة فقط، أو أنه يخص هذا الجبل اللبناني وحده، ولكنه يخصني أيضا ولي حصة ونصيب كبير فيه، فهل هذا يعود إلى إحساسي بأن لبنان هي لبناننا بكل ما له وما فيه؟ أم لأنه راسخ فينا وعالق منذ الطفولة، فبات كل شيء فيه ينبعث من ماضينا، كأنه عمرنا الذي كان وهوانا الذي تشكل على تضاريسه وعلى ترابه؟

لا أدري كيف أفسر هذا الهارب من التفسير، لكن كل الطرق وأرصفتها وأحجارها وأشجارها «وسحلياتها»، وبحر بيروت وسمائها وضجيجها وصخبها، ونبض الحياة الهادر فيها، كله يشعرني بأنه يخصني ولي حصة فيه، وهذا ليس من باب التسلط والتولي والهيمنة، ولكنه آت من ذاكرة تلك الطفولة وأيام الصبا المرهونة فيه، من تلك الذكريات المحبوسة هناك والتي تنبعث بقوة كلما زرت بيروت وجبالها، كأنك فجأة تتذكر أنك هنا وليس هناك فقط، فلبنان لا يتركك في مشاعر الحياد، لبنان ينغرز وينشك على طول في الوجدان وفي القلب.

هذا هو لبنان... مخلوق للعشق وللتدله وللوله، تبقى معلقا فيه «ومشكولا» في زناره إلى الأبد، لا لأنه حلو وأهله «حوبين» ومنفتحين، بل لأن كل ما فيه من سماء وأرض وحجر وشجر وبشر كلهم مخلوقون غير شكل، ومرصودون لذاكرة لا يعرفها المحو، كلهم مرصودون للرشم أو الوشم أو الرقش والديمومة.

كل شيء في لبنان يدل على لبنانيته، وعلى طابعه الخاص، هذا الاختلاف تلاحظه في السياسة، وفي الحياة وفي الطوائف والعواطف والطبيعة ذاتها، وحتى الإعلانات تجدها مختلفة عما هو سائد عندنا، فيها الطبع اللبناني المتودد أو الذي يعرف كيف يخترق الفؤاد ويصل بسرعة البرق إلى هدفه ومراده، ومثال على ذلك ما يلي: أنت غالي وطلبك عندنا، أو هديتك يا عمري تبقى لكل عمري، أو هدية لأمي وأمك، وأيضا: «لا مين ما رحت هيدا احنا» أو نقي واستحلي.

لهذا أقول كل شيء في لبنان هواه لبناني نابع من طبعه ومن عاداته وبيئته واختلافاته وصراعاته، لكن في النهاية ولد لنا هذا البنان المعشوق من الجميع، والمقتول بحب الجميع.