الطريق الوعر

نشر في 21-06-2009
آخر تحديث 21-06-2009 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت إذا كان لنا أن نصدق البيانات الخاصة بسوق البورصة وأسعار الفائدة، فهذا يعني أن الاقتصاد الأميركي قد شهد أسوأ ما في الأزمة وربما يكون الآن على أول الطريق نحو التعافي البطيء. ولكن متاعب الاقتصاد العالمي قد بدأت للتو. وإذا لم تحصل العولمة على الجرعة التي تحتاج إليها من الإصلاح فإن التوقعات الاقتصادية ستكون قاتمة بالنسبة للبلدان الغنية والفقيرة على حد سواء.

وأسوأ ما يمكن أن يحدث هو العودة إلى ثلاثينيات القرن العشرين، حين بادرت بلدان العالم إلى بناء حواجز تجارة عالية وتراجعت إلى الانعزالية، وهو ما ألحق الضرر بالجميع. ومما يدعو إلى التفاؤل أن هذا السيناريو بعيد كل البعد عنا اليوم. ولكن ثاني أسوأ سيناريو هو أن نفترض أن الاستعانة بخطة إصلاح مؤقتة قد يكون كافياً لتصحيح مسار العولمة ومساعدتها على البقاء. إن الأمر سيتطلب قدراً عظيماً من الجهد الحقيقي والإبداع لإصلاح الصدوع العميقة التي أصابت العولمة والتي كشفت عنها الأزمة المالية.

ولنبدأ أولاً بالأخبار السارة. ربما لم تكن الاستجابة العالمية للأزمة متميزة، ولكنها أيضاً لم تكن مشتتة ولم تكن على هوى كل طرف بمعزل عن الأطراف الأخرى كما كنا نخشى. صحيح أن مجموعة العشرين عجزت عن الاتفاق على خطة تحفيز مالية منسقة أو خطوات راسخة في التعامل مع قضية الإصلاح المصرفي، ولكنها تكاتفت مع صندوق النقد الدولي وزودته بموارد إضافية. ورغم التدابير الميالة إلى الحماية والتي اتخذت في أنحاء العالم المختلفة منذ اندلاع الأزمة المالية، فإن أغلب هذه التدابير ليست خطيرة إلى الحد الذي قد يقض مضاجعنا. ويبدو أن العولمة لم تتلق ضربة قاضية- أو على الأقل حتى الآن.

إن الاختبار الحقيقي لم يأت بعد. والمشكلة هنا أن نقاط الضعف الأساسية التي تعانيها العولمة ليس من المرجح أن تُعالَج بالقدر الكافي من النجاح في إطار الأجندة الحالية. لا شك أن التنظيمات المالية وآليات الإشراف ستكون أكثر إحكاماً وأشد قوة، ولكنها ستظل ذات طابع وطني، مع القليل من الحماية ضد التسرب عبر الحدود أو ممارسات البيع والشراء في أكثر من سوق.

فضلاً عن ذلك فإن جدول أعمال منظمة التجارة العالمية سيظل في غير محله، وسينتهي في كل الأحوال إلى طريق مسدود. ومازال على الصين أن تستكشف وتتبنى استراتيجية نمو بديلة لا تعتمد على الفوائض التجارية الضخمة. وإذا تركنا التجارة والهجرة (الشرعية منهما وغير الشرعية) بلا ضابط أو رابط فسيؤدي ذلك إلى استمرار الضغوط على أسواق العمالة في البلدان الغنية. والحقيقة أن الأزمة المالية لم تساعد في تحسين صورة العولمة، والتي طالما كانت تفتقر إلى الشعبية إلى حد كبير بين الناخبين العاديين في أغلب بلدان العالم المتقدمة.

ونتيجة لذلك فإن ميل العولمة إلى توليد الخلل في توازن الاقتصاد الكلي والهشاشة المالية، وتأثيرها السلبي على المساواة والسلام الاجتماعي في العديد من البلدان، وشرعيتها السياسية الضعيفة، سيستمر في توليد التوترات والأزمات الدورية.

هناك تطوران آخران من شأنهما أن يؤديا إلى تفاقم نقاط الضعف هذه إلى حد خطير: الأول، أن الولايات المتحدة وغيرها من البلدان المتقدمة من غير المرجح أن تنجح في استعادة نشاطها الاقتصادي السابق حتى بعد عودة الاستقرار المالي. فقد عانت الأسر في البلدان المتقدمة من خسارة هائلة لثرواتها (قد تصل إلى عشرات التريليونات من الدولارات). وهذا يعني ضمناً أن نمو الاستهلاك سيظل معوَّقاً لبعض الوقت.

ومع ارتفاع الدين العام بسرعة بالغة، والتوقعات بأن يتجاوز مستواه في بعض البلدان 100% من الناتج المحلي الإجمالي، فلن تكون الحكومات في وضع يسمح لها بتغطية الفجوة الناتجة. والواقع أن إعادة هيكلة الاقتصاد بعيداً عن التمويل ستستغرق بعض الوقت بالضرورة. وسيكون الركود وليس النمو هو الغالب على الأمر.

ثانياً، سيظل المدد من الزعامات العالمية الحقيقة قاصراً إلى حد كبير. وستكون الولايات المتحدة عاجزة بسبب ديونها المرتفعة، وأدائها الاقتصادي الهزيل، ونموذجها الاقتصادي الذي فقد مصداقيته. وسيكون الاتحاد الأوروبي مشغولاً بعملية التكامل الداخلية. أما الصين، حيث نصيب الفرد في الدخل واحد على ثمانية من نظيره في الولايات المتحدة (بعد تعديله وفقاً لتعادل القوى الشرائية)، فإنها ببساطة أفقر من أن تصلح كلاعب مهيمن جديد.

إن التاريخ ينبئنا بأن ترسيخ النظام الاقتصادي العالمي وصيانته في غياب قوة اقتصادية مهيمنة أمر صعب للغاية. ففي فترة ما بين الحربين العالميتين، حين تعرض العالم لأزمة مماثلة في الزعامة، لم يقتصر الأمر على انهيار العولمة فحسب، بل لقد أدت الأزمة في النهاية إلى صراع مسلح مدمر على نطاق عالمي.

لذا فإن المخاطر المرتبطة بمحاولات تصحيح اقتصاد العالم ستكون أعظم من أي وقت مضى. ولا شك أن العواقب المترتبة على سوء إدارة هذه العملية ستكون رهيبة إلى حد لا يمكن تصوره.

ومما يدعو إلى الأسف أن العديد من الحلول المطروحة إما مترددة أكثر مما ينبغي أو أنها تقتضي قدراً عظيماً من الزعامة العالمية التي تعاني النقص بالفعل. إن اللغز المحير الذي يكتنف عملية الإصلاح العالمية يتلخص في أن المقترحات التي تذهب بعيداً بما فيه الكفاية، مثل إنشاء هيئة رقابية مالية عالمية، غير واقعية إلى حد كبير، في حين أن المقترحات الواقعية، مثل إصلاح صندوق النقد الدولي، لا تكفي لتحقيق الغاية المطلوبة.

إننا نحتاج إلى رؤية للعولمة تدرك حدودها تمام الإدراك. ومن الممكن أن تقوم البداية على مبدأ بسيط: يتعين علينا ألا نجاهد من أجل تحقيق أقصى قدر من الانفتاح في التجارة والتمويل، بل إن الأمر يتطلب مستوى من الانفتاح يسمح بالحيز الكافي لملاحقة الأهداف المحلية على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي سواء في البلدان الغنية أو الفقيرة. والواقع أن أفضل السبل لإنقاذ العولمة يتلخص في عدم دفعها إلى ما هو أبعد مما ينبغي.

ولنستعن هنا بالقياس على الحركة المرورية. من بين السبل التي قد يقترحها البعض لمنع حوادث المرور أن نطالب الجميع بقيادة سيارات متماثلة، والتحرك بالسرعة نفسها، والسير في الاتجاه نفسه. وهناك وسيلة أخرى تتلخص في فرض بعض القواعد البسيطة: لا تقد سيارتك ببطء في الحارات السريعة، وتوقف عند الإشارة الحمراء، واستخدم إشارتك قبل أن تغير حارتك، وما إلى ذلك.

قد يسمح النهج الأول بتعظيم حجم الحمل المروري الذي يمكن استيعابه بسلام، ولكنه يفشل في الوصول بأغلب الناس إلى حيث يريدون الذهاب. أما النهج الثاني فهو يسمح للسائقين بتحديد اختياراتهم بأنفسهم، حتى ولو كان هذا يعني اضطرارهم إلى الإبطاء أو التوقف في بعض الأحيان. وبالمثل يتعين على العولمة السليمة القادرة على الاستمرار ألا تفرض مجموعة من القواعد العامة المقيدة على الجميع.

لقد كشفت الأزمة المالية نقاط الضعف التي تحيط بالعولمة. ومن الخطأ أن نحاول دفع العولمة إلى المستوى التالي. ولن يتسنى لنا أن نزيل العقبات الاقتصادية والسياسية التي تعوق التكامل العميق بالاستعانة بالمواعظ والنصائح. بل يتعين علينا أن نأخذ مثل هذه الاعتبارات والحدود في حسباننا وأن نقلص من طموحاتنا بعض الشيء.

* داني رودريك ، أستاذ الاقتصاد السياسي بكلية جون ف. كينيدي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top