صرختُ من أعماقي: «آخ»، وأنا أغمض عينيّ بقسوة وأشد على أسناني وأضرب فخذي، بعدما تلقيت رسالة هاتفية من صديق «ذوّيق»، ينتقد فيها الجملة الأخيرة التي أنهيت بها مقالتي السابقة، ويتساءل: «كيف تكتب جملة بهذه الصياغة؟»، فهرولت بحثاً عن الإنترنت، وراجعت المقالة، فوجدت الجملة المشبوهة، ووجدت – إمعاناً في التعذيب - تعليقاً لقارئ ذوّيق آخر اسمه «الألمعي» يحمل العتب نفسه. والجملة المشبوهة هي «فانظرا ما أنتما تفعلان»! آخ ومليون آخ. كانت الجملة في الأصل هي «فانظرا ما تفعلان»، ثم أحببت إضافة كلمة «أنتما»، لتصبح الجملة «فانظرا ما أنتما فاعلان»، لكنني أضفت «أنتما» ونسيت تبديل كلمة «تفعلان» إلى «فاعلان»، فخرجت الجملة مصابة بحروق من الدرجة الأولى! لذا أضم كفّيّ الاثنتين أمام وجهي وأحني رأسي كما يفعل اليابانيون اعتذاراً لعشاق اللغة. وآخ للمرة المليون على النشاز البشع.

Ad

وكانت المقالة المذكورة جدّية قاطبة الحاجبين، كما تفعل بعض بناتنا في مقاهي ومطاعم الدول السياحية عندما يعبسن ليثبتن أنهن الشريفات الوحيدات على ظهر هذا الكوكب. وقد تعمّدت أن أرسم التكشيرة على المقالة وأنا أتحدث عن «وباء إنفلونزا الخنازير» وعن حياة الأطفال، لكن كلمة «أنتما» دخلت على الجملة فقلبت عاليها واطيها، وجعلت أعزة حروفها أذلّة! وأظنها ليست «كلمة»، بل «كلبة». وكم تمنيت لو أنني لوّحت لها بعظمٍ لتتبعني فأنتحي بها مكاناً قصيّاً، ثم أعود جرياً إلى المقالة فأُغلق بابها في وجه الكلبة «أنتما»، أو لو أنني قفزت فوق سور مبنى هذه الجريدة ليلاً، وتسللت إلى أعدادها المطبوعة، وسرقت كلمة «أنتما» وأخفيتها خلف ظهري ودفنتها قبل أن يراها الناس.

هي كارثة على الكاتب قد لا يشعر بها أغلب الناس، لكنها مؤلمة. أشهد أنها آلمتني. وقد يفرح بها أنصار النائب عبد السلام النابلسي، الذين هددوني في رسائلهم الإلكترونية بأن غضب النابلسي عواقبه وخيمة، وأن السماء ستنتقم له مني، فرددت عليهم: «أبلغوه أن يرفع يديه عليّ بالدعاء سبعة أيام بلياليها، قابلة للتمديد، بشرط موافقة الطرفين»، وها هي أمنيتهم تتحقق فأرتكب غلطة في الصياغة. غفرانك اللهم.

وأرى أن كتابة المقال في أغلبها «صياغة وأسلوب»، ثم تأتي الفكرة في آخر الركب، وقد تستغني عن الفكرة، لكنك ستموت عطشاً إن لم تحرص على ملء قربتك بالأسلوب. لذلك يتحمّس أحدهم لكتابة المقالات، كي ينثر أفكاراً ثلاثاً أو أربعاً شغلن ذهنه، وما إن ينثرهن، حتى تفرغ جعبته كلها، فيجلس على قارعة الصفحات، يستجدي (2.5 في المئة) من أموالك التي دار عليها الحَوْل. أما من يمتلك الأسلوب، فلن يضيره لو تكلم عن «السماء وزرقتها»، فجعبته ملأى بالنجوم والكواكب التي تزّين السماء، وهو سيتلاعب بمقالاته كما يتلاعب فارس بني هوازن الأشم «عامر بن الطفيل» بسيفه بين الصفوف، قبل التقاء الجموع، بغطرسة وغرور، وبطريقة تبهر الأعداء وتبث الرعب فيهم، وتنفخ صدور قومه فخراً وثقة، فيكرّون كرّ الفهود.

أجزم أن الكتابة غطرسة تبحث عن «عامر» يتقنها، وقد يسقط السيف من يد عامر مرة أو مرات، لكنه سينحني ليلتقطه ويعاود استعراضه وغطرسته، لترتعد فرائص الأعداء وتنتفخ صدور قومه فخراً وثقة.