"القرآن بين دَفتي المصحف لا ينطق، وإنما يتكلم به الرجال"... "القرآن حمال أوجه"... كلمات قالها الإمام علي بن أبي طالب غابت معانيها عنا كثيراً... وهي أن القرآن يفسره بشر، لذا فالاجتهادات المختلفة والتفسيرات البشرية المتعددة هي التي تحدد المعنى النسبي للحقائق... وهو ذات المنطق الذي انطلق منه ابن رشد في دعوته إلى إعمال العقل في تأويل القرآن، ونفس الطريق الذي مشى فيه الإصلاحيون المجددون كمحمد عبده والأفغاني، ونفس الفكر الذي دعا إليه المفكرون في عصرنا الحالي كالراحل د. نصر حامد أبو زيد الذي اختصر محنة المسلمين اليوم في عنوان كتابه "التفكير في زمن التكفير"... ليتواجه الفكر والقلم مع العنف والسلاح في معركة غير متوافقة وغير عادلة. فلم يكن نصر حامد أبو زيد وحده مَن انتقد القراءة الحرفية الجامدة للنصوص التي حولت التفسيرات البشرية "غير المقدسة" إلى نصوص "مقدسة"... ليتحول الفهم البشري حسب زمانه ومكانه إلى شريعة "منزلة" حين أغلقت أبواب الاجتهاد وفرضت رؤاها الأحادية الضيقة قسراً على الوعي الجماعي، لذا دعا د. نصر حامد أبو زيد إلى "التحرر من سلطة النصوص" أي من "سلطة التأويل السلطوي للنصوص التي تحتكر تأويل النص الديني"، وهو هنا يفرق بين النصوص المقدسة والفهم البشري للنصوص، وبين الدين والفهم البشري للدين... فبدون خوض المعركة من الداخل، حسب رأيه، لن يكون لنا نهوض.
إن سؤال النهضة "لماذا تخلَّفنا وتقدم الآخرون؟" كان دائماً محور المشروع الإصلاحي للمفكرين الإسلاميين، لينقسم جواب النهضة إلى قسمين، حسب د. أبو زيد... أرجع رواد الحداثة سبب تخلفنا إلى "عدم فهم الإسلام" فدعوا إلى فتح باب الاجتهاد وتجديد الفكر الديني والأخذ بروحه بعيداً عن النهج الحرفي التقليدي... أما الجواب الآخر وهو المهيمن في عصرنا الحالي فهو جواب الإخوان المسلمين، وهو أن "الحل في الإسلام"... أي في تسييس الإسلام، وهي كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حين رفعت المصاحف في حرب صفين، "كلمة حق يراد بها باطل" فقد أضر هذا الحل كثيراً بقيم الديمقراطية والمواطنة وحيادية الدولة إزاء مجتمع متعدد الطوائف والأديان والمعتقدات، وأضر بدور الدولة في حماية حقوقهم جميعاً دون تحيز أو إلغاء أو إقصاء... فلم يجلب هذا الحل إلا صعود التيارات الأصولية المتشددة، فالصراع بين الأديان والمذاهب الذي نشهد اليوم أقبح تجلياته في الدول العربية الإسلامية ليس بصراع فكري، بل هو حسب د. أبو زيد "احتقان اجتماعي همَّش فكرة المواطن". رحل عن دنيانا صانع التنوير، الذي آمن بصناعة التنوير وإنتاجه لا بمجرد التهليل والهتافات، فالتنوير كما يقول "صناعة ثقيلة لا تقل عن التصنيع في المجتمع... وإنتاج الفكر لا يتم منفصلاً عن الإنتاج في مجالات أخرى"... رحل د. نصر حامد أبو زيد بعد معركة شرسة خاضها ضد التكفيريين الديكتاتوريين، الذين أقاموا ضده دعاوى الحسبة واتهموه بالكفر والردة، لتحكم المحكمة "استناداً إلى مرجعية دينية" بالتفريق بينه وبين زوجته... فاضطر د. أبو زيد إلى ترك وطنه والهجرة إلى هولندا، ولكن من سخرية القدر أن تدور الدوائر على اثنين ممن كفروه واتهموه بالردة، فعبد الصبور شاهين (الذي عمل مستشاراً في شركة توظيف أموال اتهمت بسرقة أموال عملائها) أبرز متهمي د. أبو زيد بالكفر، تجرع من نفس الكأس، فهوجِم وكُفِّر حين ألَّف كتابه "أبي آدم"، ليدافع د. أبو زيد عمَّن أضره وتسبب في معاناته من أجل حرية الرأي، أما الآخر فهو يوسف البدري الذي لم يترك مفكراً إلا وأقام دعوى حسبة ضده... لتنتشر فضيحته بالمتاجرة بالدين بتصويره أثناء تسلُّمِه أموالاً مقابل قيامه برقية شرعية. قبل شهور، لم يتم السماح للدكتور أبو زيد بدخول الكويت، رغم حصوله على تأشيرة الدخول، فاحتُجِز في المطار بسبب ابتزاز التيارات الظلامية التي اتَّهم أحد نوابها د. أبو زيد بأنه "يقول إن الله غير موجود"! وهي اتهامات باطلة تدل على عدم قراءتهم كتبه... لم يحارِب د. أبو زيد الدين، بل كان مدافعاً عنه، ناقداً لكل مَن يسعى إلى تلويثه وفساده بإقحامه في السياسة، فدعا الأزهر إلى أن "يعيد إلى الدين عافيته التي فقدها في أتون السياسة... فلا بديل إلا بفتح الأبواب والنوافذ ليخترق الهواء النقي بؤر الفساد فيتحلل الاستبداد"... لم يَدعُ د. أبو زيد إلى إلغاء الدين كما يدَّعي بعض الغوغاء، بل أكد استحالة أن تفصل أي قوة الدينَ عن المجتمع. غاب د. نصر حامد أبو زيد، لكن أفكاره سيُكتب لها الخلود كما كتب لأفكار ابن ارشد والرواد التنويريين، فالأفكار كما يقول لا تموت... لكن سؤاله يبقى: "كيف يستطيع المجتمع أن يعطي لهذه الأفكار نفَساً؟ هذا هو السؤال".
أخر كلام
وداعاً...يا صانع التنوير
13-07-2010