استمرار ترقيع الخدمة المدنية للكوادر
ما إن تحاول الحكومة أن تصحح تخبطها بإجراء معين حتى نراها تدخل في تخبط آخر، وهكذا دون وجود أي مؤشر على توقف مثل هذه السياسة التي لا تنم عن مسؤولية، وآخر هذه الإجراءات ما يتعلق بالكوادر والزيادات التي أُقرت قبل أيام عدة. برأيي أن هذه الزيادات كانت مستحقة وحتمية حتى يكون هناك توازن في معاشات العاملين في الحكومة، فليس من المعقول مثلا أن يصل فارق الراتب بين الجامعيين حسب الوزارة أو التخصص إلى حد 50% وأكثر نتيجة للتخبط الذي مارسه ديوان الخدمة المدنية الذي لم يقر الزيادات والكوادر وفق دراسة وافية وشاملة، بل حسب مدى «شطارة» كل قطاع أو تخصص في ممارسة الابتزاز والضغط السياسي. لكن هذا الحل خلق مشكلة سبق أن حصلت قبل سنوات عدة، وهي مساواة العاملين في الوزارات مع العاملين في مؤسسات ذات طبيعة خاصة، ولنأخذ مثلاً القطاع النفطي المعروف بزيادة ساعات عمله الأسبوعية عن ساعات عمل الوزارات، إضافة إلى طبيعة العمل الشاقة والحساسة في آن واحد لأنه مرتبط بمصدر الدخل الوحيد تقريباً للدولة، ناهيك عن المخاطر التشغيلية والصحية المرتبطة به. فكان هذا القطاع يجذب الموظفين إليه نتيجة لارتفاع رواتب العاملين فيه عن نظرائهم في الوزارات بنسبة 20% على الأقل نتيجة للأسباب التي تم ذكرها. لكن عندما تمت زيادة رواتب المهندسين بالوزارات قبل خمس سنوات تقريباً، انخفض الفارق بالراتب إلى نسبة قليلة لم تعد جاذبة للعمل في النفط، فبدأت الهجرة من هذا القطاع إلى الوزارات، وهو الأمر الذي استدعى زيادة رواتب العاملين في النفط حتى يعود فارق الراتب الجاذب للعمل فيه. لكن يبدو أن الحكومة لا تتعلم من أخطائها، فأعادت زيادة رواتب مهندسي الوزارات مرة أخرى بحيث أصبح مساوياً لرواتب مهندسي النفط- إن لم يكن أكثر في بعض الحالات- وبذلك يعود الاختلال في الميزان، مما سيؤدي إلى استئناف الهجرة من النفط إلى الوزارات، فنعود للدوران في نفس الدوامة مرة أخرى. لذلك، يجب على الحكومة إعادة دراسة سوق العمل ووضع معايير لتفضيل قطاع على آخر أو تخصص على آخر، بحيث تنتهي من مسلسل الزيادات بشكل عشوائي والذي يؤدي إلى محاولات ترقيع لن تنتهي. فلو أردنا مثلا جذب العاملين إلى الأعمال الشاقة في النفط، لوجب وضع نسبة لفارق الرواتب عن العاملين بالحكومة، بحيث لا يتم زيادة طرف دون آخر، ويسري الأمر كذلك على كل التخصصات. لكن الاستمرار بهذا النهج المتخبط في إدارة موارد الدولة سيؤدي إلى مزيد من الهدر من المال العام دون فوائد حقيقية، فلو قارنا رواتب حديثي التعيين بكل قطاعات الدولة مع نظيراتها قبل عشر سنوات لوجدناها زادت 50% على الأقل، وهو رقم مهول وغير مبرر، خصوصاً مع استمرار قلة إنتاجية الموظف الكويتي بشكل عام واتكال الدولة على الوافدين. وإذا نظرنا إلى الفارق بين راتب تخصص ما مع تخصص آخر الآن (بعد الزيادات) وقبل ست سنوات نجد أنها بقيت كما هي أو تغيرت بشكل طفيف، مع تحسن طفيف في القدرة الشرائية نسبة إلى حجم الزيادات. وسبب ذلك تزامن هذه الزيادات مع ارتفاع الفائدة- وبالتالي مشكلة القروض- وارتفاع الأسعار والتضخم بشكل جنوني خصوصاً مع غياب الرقابة الحكومية، وهو ما عاد بالنفع على التجار، ومع ذلك لا نجد أيا من نواب الصراخ والمزايدات يتطرق إلى هذا التخبط والهدر الكبير في المال العام الذي يقدر بالمليارات سنوياً، بل على العكس نجدهم يشجعون على هذا الهدر والنزف على حساب الأجيال القادمة وفي نفس الوقت يقيمون الدنيا ولا يقعدونها من أجل مليون هنا ومليون هناك! المهم أن أكبر متضرر من هذه الزيادات العشوائية على مدى السنوات الست الماضية هو القطاع الخاص الذي لم يعد جاذباً لعمل المواطنين في وقت تدعي فيها الحكومة من خلال خطة التنمية بأنها ستقوم بخلق آلاف فرص العمل بالقطاع الخاص سنوياً (وين يا حظي؟). كما أن هذه الزيادات ستشجع على المزيد من تحصيل الشهادات الوهمية للحصول على الكوادر الخيالية في وقت يجب على الدولة تشجيع الشباب على العمل الحرفي تدريجياً تمهيداً لعهد ما بعد النفط. لكن ماذا نفعل مع حكومة ضعيفة ومتخبطة ومجلس أمة مليء بالممثلين والمزايدين؟ أما توصيات توني بلير والبنك الدولي، فيبدو أن الحكومة تعاملت معهما على طريقة «شاوروهن وخالفوهن».