لكلِّ آلةٍ موسيقية هندية رئيسية، أو طورٍ غنائي أستاذٌ (أو بانديت) بالغ الرفعة. لغناءِ «الراج» جوشي، ولغناءِ «غزل» الكلاسيكي مهدي حسن، ولآلةِ السارود أمجد علي خان، ولغناءِ «القوّالة» التصوفي فاتح علي خان، ولآلةِ «السيتار» رافي شانكار. والآلة الأخيرة هي أم الآلات جميعاً، شأن العود لدينا، وشانكار هو الأرفع والأشهر، لا في عموم الهند وحدها، بل في العالم المتقدم أيضاً، وفي نيسان هذا العام، مرّت ذكرى عيد ميلاده التسعين، الرجلُ سمح الوجه، صغير الحجم، بالغ الرقة وسعة الأفق، وعميق التدين الروحاني (لا العقائدي)، الذي يجد في الموسيقى أرفع تجلياته.
دار النشر Deutsche Grammophon للموسيقى الكلاسيكية أصدرتْ، احتفاءً بالمناسبة، مختاراتٍ من أعماله في «3CD»، تعكس أصالته الهندية من جانب، ونزعته العالمية في الحوار الموسيقي مع الشعوب، من جانب آخر. ولعل أشهر الغائبين في هذه المختارات هو عازف الفايولين الشهير يهودي مينوهين، والأعمال التي ألّفاها وأدّياها سويةً وهي ذات شهرة اليوم، ولعل القارئ يستطيع أن يقع عليها بيسر في «YouTube»، ليتأمل المهارة المدهشة التي يتمتع بها الموسيقيان، كل واحد مع آلته، دون أنْ يغفلَ أحدُهما آلةَ صاحبه، في متابعة الإيقاع، وفي التساوقِ مع اللحن. آلة السيتار وترية تتميز بعنقها الطويل، الذي هو موطن اللحن، صوتُها يعتمد نبرَ الأوتار بأصابع اليد اليمنى، ثم تطويعَ اللحن في الوتر المنبور بأصابع اليد اليسرى، ولها سبعة عشر وتراً، على أن المعتمدَ فيها للنبر ثلاثةُ أو أربعة، وثلاثةٌ أو أربعةٌ لتوفير الطنين، الأوتارُ البقيةُ تمتد خلف الدساتين، ولا تُمس، بل تتسلّم اللحن الذي يلائمها، وتزيده ذبذبة، لذا فالنغمةُ التي تولّدها ستكون بالضرورة ذات صدى في العمق، صدى النغمة التأملية.تُعتبر السيتار آلة متأخرة نسبياً، رغم محاولات إرجاعها إلى عصور أسطورية، فقد ورثها الهنود عن الفرس، في فترة انهيار دولة المغول، وأصبحت ذاتَ سيادةٍ بمرحلة قصيرة، في شمال شبه القارة، ولا أثر لها في الجنوب. كان شانكار من عائلة ذات حمية مع الشأن الموسيقي، وهي عادة ما تربطه بالعبادة، بدأ الرقص مع أخيه في فرقة كانت كثيرة التجوال في أوروبا، ثم اعتزل الرقص عام 1938 لينصرف إلى دراسة الموسيقى، وآلة السيتار بشكل خاص، ولأن الرجل مفعمٌ بالصحة الروحية والبدنية، واصل العزف والتأليف بنشاط باهر على امتداد سبعين عاماً، حتى هذا اليوم. قلت إن صدى اللحن يملي على المستمع حالة تأملية، أو يتطلب منه ذلك، فـ»الراج»، أي «راج»، وأنواعه بالغة الكثرة والتنوع (عادة ما ترتبط بالتحولات الزمانية لليوم الواحد، وللشهور والمواسم)، يتطلب حركاتٍ أربع، حركة «آلاب» الأولى تبدأ بعناصر لحنية بالغة البطء، الذي يؤلب على السعي بعيداً عن سطح المشاعر، وعادة ما ينفر منها المستمع الذي اعتاد موسيقى التسلية، والتطريب العاجل. ونبضُ هذه الحركة يبدأ بتحوّله إلى إيقاع حين يتطور إلى «جور»، الحركة الثانية، وفي الثالثة تبدأ الطبلة بالمشاركة، وقد تتأخر إلى الرابعة، ومع هذا التطور تتشكّلُ ملامحُ الأغنية اللحنية التي تحتفي بها الأوتار، وكأنها على انتظار، ولك أن تتخيل أن هذا «الراج» قد يمتد إلى ساعة من الزمان. في أعمال شانكار المختارة التي بين يديّ، تنوعٌ رائع، فمهارةُ المؤلف-العازف تتلون في أصالة «الراج» التقليدي، والآخر الذي هو «احتفاء بالمهاتما غاندي» (وضعه عند مقتله اغتيالاً عام 1948)، والثالث جديد نسبياً، ظاهرُ الغنائية، والرابعُ يعكس طموحَ شانكار لتجاوز الحوار الشرقي الغربي، إلى حوار شرقي-شرقي. فالاسطوانة الثالثة تحت عنوان «شانكار وأصدقاؤه: باتجاه مطلع الشمس»، وأصدقاؤه هذه المرة موسيقيون يابانيون، والآلة الملهمة له هي «الكوتو» الوترية، وقد ألف لها أعمالاً أربعة. شانكار، سفير الهند الموسيقي إلى العالم، بالغ النشاط لا في تجواله كعازف فقط، بل في تأليفه، فإلى جانب موسيقاه الهندية التقليدية، له ثلاثة كونشيرتات للسيتار والأوركسترا (الغربية)، ومؤلفات للكمان وضعها للعازف الكبير يهودي مينوهين، وأخرى لعازف الفلوت جان بيار رامبال، وأخريات اشترك فيها مع البيتلز، وغيرهم، منذ الستينيات.
توابل
شانكار والسيتار
13-05-2010