كيف تـميِّز صديقاً حقيقياً؟ حين تدرك أنه يثق بك ويهتم باحتياجاتك الحقيقية، ويحدثك بصدق عن أخطائك، ويحاول مساعدتك بإخلاص في تصحيح هذه الأخطاء وتقويمها. هذا هو الصديق الذي أريده بجانبي وليس شخصاً يوافق تلقائياً على كل تصرفاتي، ويعلن حبه لي، ويتقبلني على حالي أياً كان.

Ad

منذ النصر العسكري الكبير الذي أحرزته إسرائيل في حرب الأيام الستة في عام 1967، حين تمكنت من صد جيوش مصر وسورية والأردن مجتمعة، وهي الدول أعلنت صراحة رغبتها في تدمير الدولة اليهودية، ظلت إسرائيل في مخاض إيديولوجي وارتباك عسكري نتيجة للأراضي التي استولت عليها أثناء ذلك الصراع.

في أعقاب حرب الأيام الستة لم تفكر إسرائيل في الأراضي التي غزتها باعتبارها شيئاً يمكن مقايضته بالسلام، فتحث بالتالي العالم العربي والفلسطينيين على الاعتراف بشرعيتها وتضمن تجريد المناطق الفلسطينية من الصفة العسكرية بعد إرجاعها إلى أصحابها. ولكن ما حدث بدلاً من ذلك هو أن إسرائيل- إما بسبب عدم ثقتها في أعدائها وفي التزامهم باحترام أي اتفاقية سلام في المستقبل، وإما بسبب رغبتها في ضم بعض هذه المناطق إليها- بدأت في انتهاج سياسة المستوطنات. ولكنها بذلك خلقت واقعاً يصعب إبطاله أو عكسه.

إن المستوطنات الإسرائيلية غير العسكرية كانت دوماً في غير محلها بالنسبة لأمن البلاد. بل نتيجة لتمركز هذه المستوطنات في قلب التجمعات السكانية الفلسطينية، فقد تحولت إلى أهداف سهلة للهجمات الإرهابية وبات من الضروري اتخاذ تدابير دفاعية خاصة لحمايتها، بما في ذلك نشر قوات عسكرية ضخمة تتلخص مهمتها في تسيير الدوريات والمراقبة. وحتى على مرتفعات الجولان حيث الوجود السوري منعدم فإن المستوطنات، التي تقع على بعد بضعة كيلومترات من تجمعات ضخمة للقوات السورية، تشكل عبئاً ثقيلاً، وذلك لأن الجيش الإسرائيلي سيضطر في حالة الحرب إلى إخلاء هذه المستوطنات بسرعة، كما حدث أثناء حرب أكتوبر (يوم الغفران) 1973.

إن المستوطنات تزيد من حدة كراهية الفلسطينيين لإسرائيل. فإلى جانب احتلال أرض الفلسطينيين واستخدام مياههم، وفرض القيود على حريتهم في التنقل والحركة، تقوم المستوطنات كدليل ملموس على نية إسرائيل في البقاء والاستمرار في الاحتلال، وبالتالي امتناعها عن الإقرار باستقلال الشعب الفلسطيني، حتى لو اعترف الفلسطينيون بشرعية إسرائيل وأظهروا استعدادهم للتعايش السلمي معها. لقد استثمرت إسرائيل قدراً هائلاً من الموارد المالية في المستوطنات، وكثيراً ما تجاهلت احتياجات على قدر عظيم من الأهمية في إسرائيل ذاتها. إن المستوطنين، وأغلبهم من أنصار الحركات والأحزاب الدينية القومية، كثيراً ما يتخذون موقفاً متغطرساً متعالياً في علاقاتهم بالسلطات الإسرائيلية، فيتظاهرون بأنهم يتمتعون بمكانة خاصة ليس فقط حين يقارنون بالفلسطينيين، بل أيضاً مقارنة بغيرهم من المواطنين الإسرائيليين. والواقع أن عدداً كبيراً منهم لا يعترفون حتى بالسلطة الشرعية لدولة إسرائيل. إن المشكلة الأعظم خطورة فيما يتصل بالمستوطنات هي أنها إذا ما استمرت في التوسع فستعمل على تقويض أي فرصة لتطبيق حل الدولتين، وإن عاجلاً أو آجلاً فلابد أن يؤدي ذلك إلى إقامة دولة موحدة- دولة تسكنها مجموعتان عرقيتان- بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. ولأن الحقائق الديموغرافية البسيطة تشير ضمناً إلى أن الفلسطينيين سيشكلون الأغلبية مع الوقت، فإن الدولة الموحدة تتحول بذلك إلى وصفة لهلاك إسرائيل.

إن أغلب الإسرائيليين يدرك هذه الحقيقة تمام الإدراك. ولكنهم شأنهم في ذلك كشأن مدمن مخدرات لا سبيل إلى تقويمه أو علاجه، لا يجدون في أنفسهم القوة لمراجعة أنفسهم: «هذا يكفي، لقد ارتكبنا خطأً فادحاً، وعلينا أن نعالجه قبل فوات الأوان».

لا جدال أن المستوطنين اليهود أرغموا بالقوة على إخلاء المستوطنات في سيناء بعد توقيع معاهدة السلام مع مصر. وعلى نحو مماثل، فحين أصبح من غير الممكن الاستمرار في دعم التجمعات اليهودية في قطاع غزة، أرغم زعيم اليمين إرييل شارون تسعة آلاف مستوطن كانوا يعيشون في غزة بين 1.5 مليون فلسطيني على إخلاء مستوطناتهم هناك- وهو الحدث الدرامي الذي خلف ندوباً عميقة على الجانبين. ولكن هناك 250 ألف مستوطن إسرائيلي في الضفة الغربية. وأي محاولة لإجلائهم قد تتصعد إلى حرب أهلية.

إن العالم أجمع، بما في ذلك الولايات المتحدة، لا يوافق على المستوطنات الإسرائيلية. ولكن رغم الفرص التي سنحت للإدارات الأميركية السابقة لترك بصمتها في هذا السياق، فقد فضلت السماح لإسرائيل، الدولة الحليفة والصديقة، بأن تفعل ما تشاء.

والآن حانت لحظة الحقيقة. إن باراك أوباما، ذلك الزعيم الحكيم الشجاع، ليس مهتماً بتحسين صورة أميركا في نظر العالم الإسلامي فحسب، بل إنه- ولا يداخلني في ذلك أدنى شك- حريص أيضاً على أمن ورفاهة إسرائيل. وهو يقول لنا: «كفاكم. توقفوا عن إلحاق الأذى بأنفسكم وبمستقبلكم. وحتى لو كنتم لا تؤمنون برغبة الفلسطينيين الحقيقية في السلام، أو قدرتهم على محاصرة المنظمات الإرهابية وتقييد حركتها، أو تخليهم عن حق العودة المزعوم، فسيظل بوسعكم دوماً حماية أمنكم بتواجدكم العسكري في المناطق الفلسطينية، بدلاً من إصدار أحكام متحاملة مسبقة على مستقبل السلام وإهدار أي فرصة لتطبيق حل الدولتين بالتوسع في بناء مستوطنات عديمة القيمة».

وبهذا النداء الواضح المباشر الذي وجهه الرئيس الأميركي إلى الحكومة الإسرائيلية، فإنه لا يعبر إلا عما يدركه أغلب الإسرائيليين بالفعل. وهو بهذا يبرهن أيضاً على صداقته العميقة للدولة اليهودية.

* أفراهام يهوشوا ، أحد الروائيين البارزين في إسرائيل. وأحدث مؤلفاته رواية بعنوان «نيران صديقة».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»