رحل زكريا وبقي الحلم
في سنوات الدراسة الجامعية أهدى الزميل د. عبدالله الجسمي- كان أيامها طالباً في قسم الفلسفةـ كتاباً مهماً إلي للدكتور فؤاد زكريا هو كتاب التفكير العلمي، وهو كتاب سنظل في حاجة إليه طالما أن الماضي يشدنا إليه أكثر من الحاضر. وتعرفت إلى فؤاد زكريا رئيس قسم الفلسفة بجامعة الكويت عبر مجموعة من المحاضرات الأسبوعية التي تقيمها كلية الآداب والتي دأب الراحل على حضورها محاضراً أحياناً ومشاركاً بنقده ورؤيته حتى أنك لا تستطيع أن تحدد في أي قسم أدبي يدرّس زكريا. كان أستاذاً موسوعياً حاضر الذهن صلب الرأي. كان رجل فلسفة وآداب واجتماع ونقد فني وموسيقي.عاش زكريا في الكويت، أعطاها جميل أيامه وخلاصة فكره وأعطته هدوءاً هو في حاجة إليه، حمل مع زملائه الكويتيين أمثال أحمد العدواني وعبدالعزيز حسين مشعل التنوير، وحافظ معهم على التوازن العلمي في مواجهة الظلام الفكري، لم يكن مدرساً تحده جدران الفصل الأربعة فدخل معارك فكرية ضخمة ليتبعه مريدون يؤمنون بتفكيره العلمي، ويختلف معه آخرون وصل الأمر ببعضهم إلى أن وضعوه ضمن جداول المطلوب اغتيالهم والتخلص منهم. حين التقيته في لقاء صحافي قال لي ضاحكا: الذي يريد قتلي لا "يعرفني"، أنتم ستضعون له صورتي ليتعرف علي!
في عام 1990 حين اختطفت الكويت وقف زكريا صلباً في مواجهة المثقف المخدوع بصورة الطاغية صدام حسين، وكتب واحدة من أروع قراءاته عن صورة الزعيم في العقل العربي. كان الرجل لوحده جبهة فكرية كاملة حاولت أبواق العراق اختراقها بذهنية الشتم، فخصصت برنامجاً إذاعياً لمحاربته، متهمة إياه بأنه "كويتي" مستفيد من ثروات الكويت، وهي تهمة كان يراها وساماً. فحياته هنا كانت جزءاً من سيرته إن لم تكن جل سيرته. حمل زكريا على عاتقه الوجه الجميل للكويت، وكان عراب منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب التي نفتخر ونفاخر بها رغم العداء المنبري وصراخ الرموز الدينية في وجهه. ودوره سيبقى ناقصاً إن لم يحمل تلاميذه مشعل المنهج العقلي الذي سقط من يده. فالظروف التي نعيشها اليوم تتطلب خروج أكثر من زكريا. فالخرافة التي حاربها تنمو بين أصابعنا والذهنية التآمرية لم تتغير. والخطوة التي تقدمناها في عشرين عاماً تراجعنا عنها ميلاً إلى الوراء في أقل من ذلك.كان زكريا يؤمن بقدرة الفرد على تغيير مجتمعه، أتذكر في الثمانينيات محاضرة له في نادي الموسيقى- وهو ناد لا أعرف إن كان موجوداً اليوم أم أزالته موجة الإحباط- تحدث فيها عن الموسيقى العالمية والعربية. ذكر زكريا أنه كان يسمع أبناء حارته الموسيقى الكلاسيكية عبر تقنيات صوتية فقيرة. نعترف بأن الحارة شوهها الغث، وطغى عليها عصر الفضاء الفج، وانتابتها أمواج غريبة من القبح، وعداء لكل ما هو جميل وأصيل. كان يريد للموسيقى العربية رقياً مماثلاً للعالمية وليتها وقفت حيث هي.رحل فؤاد زكريا ونتمنى ألا يرحل معه مشروعه التنويري، رحل زكريا في وقت نحن في أمس الحاجة إلى أمثاله. ما ننظر إليه اليوم هو الوجه الثقافي الكويتي الذي ساهم زكريا وآخرون في رسم صورته الجميلة. وما نطمح إليه هو أن نعمل على الحفاظ على مكتسباتنا، وأن نضيف إليها بقدر ما يسمح الحلم. لست متشائماً تماماً ولكنني أعيش الحلم، الحلم القريب من الوهم.