كرّرت أكثر من مرة أن لا مسؤولية جنائية في موضوع الإعلانات الانتخابية، وبالتالي فإن تحويله إلى النيابة ما كان ليؤدي إلى أي نتيجة في كل الأحوال، وأن استخدام الوزير هذه الورقة هو مجرد حركة درامية "استجوابية"، أوجدت لمَن كانوا يريدون تأييده المخرج والذريعة لذلك، وقد سألني بعض الأصدقاء أن أسلط الضوء على هذه النقطة، فوجدتها فرصة للتوسع بعض الشيء في الموضوع.

Ad

الملايين الخمسة لم تُسرق، ولم تُختلَس، إنما صُرفت كقيمة لعقد محدد وواضح، وعليه فالخلل الذي حصل كان في الإجراءات، حيث جرى توجيه العقد إلى جهة بعينها لسبب من الأسباب، سواء للتنفيع أو كترضية سياسية أو لأي سبب كان. والأمر يحتمل اثنين، فإما أن هذا التوجيه جرى عبر خرق اللوائح والقوانين الإدارية وتجاوز للصلاحيات، وإما أنه جرى من خلال صلاحيات أُسيء استخدامها، فبدلاً من أن يجتهد "صاحب القرار" في البحث عن شركة تقدم عرضاً أقل، اتجه نحو هذا العرض المرتفع جداً، وفي كل الحالات لا يوجد أي شيء يعاقب عليه القانون من الناحية الجنائية، سواء أكان بلاغ وزير الداخلية للنيابة حاوياً أسماء محددة أم غير ذلك.

إن هدر الملايين الخمسة بهذه الطريقة البشعة، وبكل وضوح، ما هو إلا خلل إداري إجرائي، يستحق المحاسبة السياسية بأعلى درجاتها، ومعاقبة المسؤولين عنه كل بقدر ارتباطه وجريمته، وهو ما كان يجب أن يركز عليه مسلم البراك في استجوابه.

لو كان مسلم البراك يؤمن بأن الجريمة جنائية لكان الأجدر به أن يتجه نحو النيابة العامة ويبلغ عن "اللصوص" بأسمائهم، لا أن يتجه إلى الاستجواب، لكنه حين توجه إلى الاستجواب فقد افترضنا فيه أنه يدرك أن مساءلته سياسية بحتة، وبالتالي كان يجدر به أن يركز على هذا الأمر ليسقط ورقة النيابة العامة من يد وزير الداخلية، فيحرجه هو ومَن كان ينوي تأييده، وما كان بإمكان أحد منهم أن يأتي اليوم ليتذرع بموضوع النيابة والبلاغ الذي عاد الرد عليه قبل الاستجواب أو بعده!

لو كان مسلم البراك أعلن في يوم الاستجواب إدراكه أنه لا سرقة في الموضوع، وأنه يقف ليسائل الوزير عن تبريره الإداري وتفسيره الإجرائي لصرف هذا المبلغ المرتفع كقيمة لهذا العقد الذي لا يساوي عُشر القيمة، لأحرج الوزير وحشره في زاوية صعبة ما كان بإمكانه أن يخرج منها، ولوضع جميع النواب أمام مسؤولياتهم السياسية بشكل صريح.

لو كان مسلم البراك ترك كل المحاور الأخرى التي كنا ندرك جميعا، أنها رغم فداحتها في نظر البعض، لن تصل بأي حال من الأحوال إلى مستوى التجريم السياسي وطرح الثقة، وركز جهده بذكاء على هذا المحور بهذه الطريقة، لحقق نصراً سياسياً حقيقياً أكبر بكثير مما يظن أنه قد حققه اليوم هو والكثيرون من حوله.

الآن لا فائدة من البكاء على الحليب المسكوب، لكن خشيتي أن يستمر التكتل الشعبي، الذي أقدر نظافة كفه وحماسه، في التعامل مع كل قضاياه بهذه الطريقة، لـ"تندلق" في النهاية كل قناني الحليب التي أمامه ولا ينتج عنها أي قيمة حقيقية للوطن، اللهم إلا الصدامات والمناطحة ووقف عجلة البلد بلا طائل!

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء