كان تعيين أول قاضية قطرية في هذا الشهر الذي يحتفل فيه العالم بإنجازات المرأة– عامة– وبعطاء الأم- خاصة- تقديراً عظيماً من القيادة القطرية لدور المرأة القطرية، وتعزيزاً كبيراً لحقوقها المشروعة في الدستور القطري.
تأتي هذه الخطوة التاريخية في سياق تمكين المرأة القطرية من ممارسة دورها التنموي المهم في المجتمع القطري، وهي سياسة بدأتها القيادة القطرية على امتداد السنوات العشر الماضية، بدءاً بإنشاء المجلس الأعلى لشؤون المرأة للنهوض بدور المرأة وتفعيله وزيادة مساهمة المرأة القطرية في مجالات التنمية، وتذليل كل العقبات أمامها والإفادة من طاقتها عبر خطوات متدرجة تأخذ في الاعتبار الضوابط الشرعية والمجتمعية، فشهد المجتمع القطري سلسلة من الإصلاحات الاجتماعية، وتعيين أول وزيرة للتربية والتعليم على المستوى الخليجي، كما تم تعيين أول عميدة لكلية الشريعة لجامعة قطر على المستويين العربي والإسلامي وصدور قانون الأسرة القطري.واليوم تتوج تلك الخطوات المحسومة بحكمة ورشد بتعيين سيدة قطرية في منصب قضائي كان حكراً على الرجال ومعقلاً حصيناً لا تجرؤ المرأة على الاقتراب منه، أو أن تحلم باختراقه، لكن ما كان حلماً بالأمس أصبح واقعاً اليوم بفضل استنارة القيادة القطرية وتقدمها وتجاوزها لكل المورثات المعوقة لحركة المجتمع، لقد كتبت كثيراً مطالباً ومتمنياً تعيين القطريات خريجات القانون والشريعة والمستوفيات شروط التأهيل في مجال القضاء، ولم تكن تلك التمنيات مجرد مشاعر نفسية بل قناعة مستمدة من تجارب علمية امتدت عقوداً من السنوات، فكنت ومازلت أدرس الطلاب والطالبات، ولم أجد اختلافاً بينهم في القدرة على فهم القضايا وإصدار الأحكام فيها، وكان أملي كبيراً أن يأتي يوم يستفاد فيه من طاقات الخريجات القانونيات والشرعيات في مجال القضاء، خصوصا بعد صدور (قانون الأسرة) عام 2006، والذي قمت بتدريسه ووجدت الطالبات يتفوقن فيه، ويتمنين أن يصبحن قاضيات في المجال الأسري، وكثيراً ما تساءلت: لماذا لا يحال بعض الخريجات إلى العمل القضائي وهن يطمحن أن يصبحن قاضيات في المستقبل؟! قالت الشيخة مها منصور سلمان جاسم آل ثاني لصحيفة الراية القطرية، إن العمل في القضاء كان رغبه قوية عندها منذ أن كانت طالبة في كلية القانون، وهي صادقة ومثلها كثيرات يطمحن إلى هذا المنصب، ويتمنين أن تتحقق رغبتهن مثل الشيخة مها التي تعينت كأول قطرية في المحاكم القطرية في منصب (مساعد قاضي) وبذلك تكون هي (ثالث) خليجية تتولى القضاء بعد السيدة منى جاسم الكواري (البحرينية) يونيو 2006، والإماراتية خلود الظاهري في مارس 2008.قطر هي الدولة (14) ترتيباً التي تمارس فيها المرأة القضاء، وهذه الدول هي: المغرب، الجزائر، تونس، مصر، السودان، اليمن، الأردن، فلسطين، لبنان، سورية، العراق، البحرين، الإمارات، قطر. بطبيعة الحال، هناك أعراف اجتماعية موروثة ومحصنة باجتهادات فقهية لا ترى أهلية المرأة للقضاء، وقد أصبحت هذه الأعراف جزءاً من ثقافة مجتمعية سندها رأي جمهور القضاء الذي رأى القضاء ولاية عامة محظورة على المرأة بناء على فهم «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»، فهم يرون أن الشريعة حرمت كل الولايات العامة على المرأة لأنها عاطفية لا تصلح لإدارة الشؤون العامة مثل الوزارة والقضاء، أو حتى عضوية الهيئات التشريعية، ولكن لأن شريعة الإسلام شريعة خالدة وتستجيب لكل احتياجات مجتمعاتنا الراهنة، ولأنه لا يمكن هدر طاقات نصف المجتمع، فقد ذهب بعض الفقهاء قديماً وكثرة من العلماء المعاصرين إلى جواز تولية المرأة القضاء، وصحيح أن المرأة لم تتولَّ القضاء قديماً إلا أنه لا يوجد في الشريعة نص يحرم قضاء المرأة، من هؤلاء الفقهاء القدامى الإمام (ابن حزم) الذي قال من 1000 سنة «وجائز أن تلي المرأة الحكم- أي القضاء- فإن قيل قد قال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة، قلنا: ذلك في الأمر العام الذي هو الخلافة».وبمثل قوله قال ابن القاسم وهو من كبار فقهاء المالكية و(ابن جرير الطبري) وهو من الأئمة المجتهدين، ومن الفقهاء المعاصرين الذين جوزوا قضاء المرأة، شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي- رحمه الله تعالى- الذي صرح «إن الشريعة الإسلامية لا تفرق بين الرجل والمرأة في تولي المناصب، بما فيها القضاء، لأنه لا توجد نصوص قطعية تمنعها من العمل قاضية».والقاعدة الفقهية العامة والمعتمدة أننا إذا كنا أمام رأيين فقهيين رأي يرى جواز تولية المرأة القضاء ورأي يرى عدم جوازه فإن من سلطة ولي الأمر أن يرجح ويختار الرأي الأنسب والأوفق للمجتمع والعصر، والذي يحقق متطلبات التنمية، ويتفق مع مبادئ العدالة والمساواة، ويحقق مضامين الدستور، ويستجيب لاتفاقيات حقوق الإنسان والمواثيق المقررة عالمياً، إذ لا معنى للجمود على رأي فقهي يهدر طاقات نصف المجتمع، وإلا لماذا نقبل طالباتنا في كليات الشريعة والقانون إذا كنا لا نستفيد من تخصصاتهن؟! أليس ذلك هدرا للثروة واستنزافا للموارد بغير طائل؟!فعلى الذين مازالوا أسرى أوهام ومخاوف عاطفية المرأة أن ينظروا حولهم ليجدوا أن هناك الآلاف من القاضيات العربيات اللاتي يمارسن القضاء منذ نصف قرن، ولم نسمع من تلك المجتمعات شكوى عن عاطفية المرأة في القضاء، فنصف القضاء في المغرب من النساء، وثلث القضاء في الجزائر وتونس منهن، غير الآلاف من القاضيات في كل مجتمعات العالم، فلماذا لا تحكمهم هواجس عاطفية المرأة؟! ولماذا نحن دون العالمين ما إن تثار قضية للمرأة حتى ترتفع أصوات محذرة من عاطفتها؟! إننا بحاجة إلى جهد ثقافي ضخم لتفكيك أسطورة عاطفية المرأة في العمل، لقد قلنا إن عاطفتها في بيتها ولزوجها وأولادها، أما في نطاق العمل فالمرأة مثل الرجل في إدارة الأمور، وفي إحسان التصرف، وفي مهارة الإنجاز، ولكن باعة الأوهام لا يريدون أن يفيقوا من أوهامهم! ثم إن العمل بالقضاء لا يتسم بالانفراد بل يقوم على نظام القضاة المتعددين 3 أو 5 يشتركون في نظر الدعوى بمبدأ المداولة، وما يصدر منهم خاضع للمراجعة من المحكمة الأعلى فلا تصبح نهائية إلا بعد استيفاء جميع طرق الطعن، فأين تأثير العاطفة الموهومة؟! ثم إنه لا مجال للعواطف في العمل القضائي المعاصر لأن القاضي مقيد بتطبيق نصوص قانون يخضع له الجميع بمن فيهم القاضي؟قد يكون الحديث عن عاطفة القاضي سائغاً، ولو كان القاضي مطلق التصرف في الاجتهاد كما في الماضي، حيث لا قانون يقيده، أما في إطار الوضع الحالي فلا مجال للحديث عن عاطفة القاضي.إن تعيين قاضية قطرية يعد حدثاً تاريخياً متجاوزاً ثقافة المؤسسات الدينية والقضائية المحكومة بالفقه السلفي الذي لا يرحب بالمرأة قاضية، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فهو حدث استثنائي يشكل تحدياً للثقافة المجتمعية السائدة المتشبعة بالفكر المحافظ الذي مازال يشكك في صلاحية المرأة للقضاء، من كان يتصور أن تصبح القطرية قاضية في مجتمع تقوم ثقافته على الممانعة!؟ إن هذا الإنجاز في تصوري يعادل إنجاز الوصول إلى المريخ، فلو عدنا بالذاكرة إلى ما قبل عشر سنوات لوجدنا المجتمع القطري يمانع في قيادة المرأة القطرية للسيارة لكن القيادة السياسية القطرية استطاعت أن تذلل العقبات وتتجاوز المعوقات وتغيير النظرة المجتمعية، وتلك دائماً مسؤوليات القيادات المتقدمة في مجتمعاتها لأن التعليم وحده، أو «الإعلام» وحده، لم يغيرا الثقافات السائدة، إذ لا بد من الإدارة السياسية البصيرة والقادرة على تجاوز المألوف والسائد لإحداث التغيير النوعي المحقق الأهداف.مبروك للمرأة القطرية ويبقى أن تثبت جدارتها، فهي اليوم في موضع تحدٍّ كبير.*كاتب قطري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراءيمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة
مقالات
القطرية قاضية: هل كان متصوراً؟!
22-03-2010