المعرض الاستعادي الضخم للفنان الأميركي، الأرمني الأصل، آرشيل غوركي (1905-1948)، في غاليري «تيْت مودرن»، بدا لي وكأنه جاء في توقيت مناسب مع مسعى الأمم المتحدة لحمل تركيا على الاعتراف بحرب الإبادة الجماعية للأرمن في سنوات الحرب العالمية الأولى، حيث ذهب ضحيتها قرابة مليون ونصف مليون إنسان. خطر لي ذلك لأن غوركي كان، على الصعيد الشخصي، عينةً بالغة التعبير عن ذلك الحدث المأساوي.

Ad

ولد غوركي (وهو اسم اتخذه في أميركا تيمناً بالكاتب الروسي مكسيم غوركي، واسمه الحقيقي فوزدامِغ مانوغ) في الجزء الغربي من أرمينيا. في الخامسة هاجر والده إلى أميركا، وبقي مع أمه وأخته على أمل واهم بالالتحاق به. حين بلغ العاشرة بدأت حملة الأتراك، فهربت العائلة سيراً على الأقدام إلى أرمينيا الروسية، تحت وطأة شتاء لا يرحم، وفي أحد المنازل المهجورة توفيت أمه جوعاً بين يديه. في عام 1920، وبفضل أحد أقاربه، هاجر إلى أميركا ليكتشف موهبة الرسم في داخله، وليلتقط من لوحات قليلة جاءت من أوروبا (بيكاسو، سيزان...)، في معارض متفرقة، شرارةَ البدء بتوجه فني لا عهد لأميركا به، يعتمد لغةً جديدة من التجريد الغنائي، تُبنى على صور مُنتقاة من ذكريات الطفولة المريرة، أضاءت الطريق لجيلين من الفنانين الأميركيين.

على أن الخيط التراجيدي أبى إلا أن يتواصل مع سنوات غوركي المتبقية، فلم يفلح في زواجه، وفي مراحل نضجه شب حريقٌ في مرسمه أتلف جهد سنوات من الأعمال الفنية، وأصاب سرطان جهاز القولون فاضطر الجراحون إلى تدبير مخرج بديل له، كان يُثقل حياته بالحرج، ثم حادث سيارة كسر عظم رقبته. أسى لم يطقه غوركي فشنق نفسه في 22 يوليو 1948، تاركاً ورقةً كتب فيها: «وداعاً يا أحبائي».

هذه الخلفية المعتمة في حياة غوركي قد لا تتضح بيسر في اللوحة التجريدية. ولكن في واحدة من لوحاته المتأخرة، تحت عنوان «حبيب مُتفحّم»، نجدها تستدعي آثار نيران باللون الأسود على صفحة قماشة رسم خام. وفي لوحة أخرى لبورتريه شخصي بالغ الحميمية، يستثيرنا جدول باللون القرمزي داخل شكل معوي لابد أنه يشير إلى نزف وألم، ولطخة سوداء تبعث مشاعر الضياع الإنساني. أمور في التذوق والفهم تعتمد الإيحاء غير المباشر. لأن التجريد، في طبيعته، لا يُحيل إلى ما وراءه.

في مطلع حياة غوركي الفنية كان يحاكي أعمال سيزان، بيكاسو، ليجير وميرو، إلى الحد الذي تتعرف، في قاعة العرض الأولى، عليهم لا عليه، بسبب تطابق المحاكاة في لوحاته. واعتبرتُ هذا أول درس في توكيد ديمومة الفن، الذي تتناوبه أيدي الفنانين. وأول اعتراف صريح وفخور بالآخر. وأول إشادة بالتواضع، مع أنه لم يلتقِ الفنانين الحداثيين الذين حاكاهم إلا عبر عينات قليلة من أعمالهم، عبر معارض في نيويورك، أو عبر مطبوعات بالأسود والأبيض. ظل غوركي يؤمن بالديمومة، اللوحة لديه لا تكتمل، لأن اكتمال لوحة يعني موتها، ولذلك يقول إنه لم يُكمل لوحة في حياته: «إنني أتوقف عن العمل فيها لفترة من الزمن فقط...».

في المعرض سلسلة رائعة من التخطيطات المبكرة، بقلم الرصاص وبالحبر الأسود، أطلق عليها عناوين: ساعات الليل، لغز وحنين، وهي ضرب من الجمع بين تجريدات بيكاسو وميرو وبين سوريالية دي جيريكو، ولكن تفوق غوركي يتضح بتظليل المركز لخلق نغمية سوداء شاملة تحاول داخلها تكوينات غير مكتملة الحياة تشبه عيوناً، أفواهاً، شفاهاً أن تبرز. إنها بالتأكيد صور ذات صلة عميقة بمعانٍ شخصية، تُقبل من أركان معتمة في الذاكرة، ومشاعر من مجاهل اللاوعي. في القاعة السابعة يخرج غوركي من شباك التجريد إلى ما يشبه الواقعية الغنائية، لرسم صورته وهو صبي إلى جانب أمه. لوحتان اعتمدتا صورة فوتوغرافية بالأسود والأبيض، أُخذت في استوديو عام 1912. الصبي يقف مثل عريس إلى جانب أمه الجالسة المتحفّزة لتوجيه إدانة، وفي يده قبضة من الورد. ولكنهما يختلفان عن نفسيهما في اللوحتين، بالرغم من تماثل الألوان.