لا مواطنة دون ليبرالية
يأتي مؤتمر المواطنة كمحاولةٍ للإجابة عن أسباب اختلال مفهوم المواطنة رغم بعض التجارب الديمقراطية كالكويت. إن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب الغوص عميقاً في سر بلائنا والسبب الرئيسي لفشل مشاريع الحداثة، وهو ترسُّخ العقلية الأصولية في مجتمعاتنا، فمعالجة اعتلالات المواطنة تتطلب أولاً تشخيص المرض. والأصولية، أي التعصب والتطرف، بعكس ما يعتقد الكثير هي منتشرة ومترسِّخة في مؤسساتنا التعليمية والإعلامية والمجتمعية بشكل حاد وخطير، فأي فكر غير متسامح يلغي الآخر ويرفض المختلف وينبذ التعددية هو فكر أصولي بالضرورة، وواقع التطاحن الطائفي الديني والقبلي وفرض الوصاية وانتشار فتاوى التكفير لا يحتاج إلى دليل.إن قيم المواطنة الحقة لم تترسّخ إلا في الدول التي طبّقت مفهوم فيلسوف القرن العشرين كارل بوبر للمجتمع المفتوح، الذي يتصالح مع قيم الحرية التي تضمن المساواة "فلا مساواة دون حرية"، وبالتالي يترسخ فيه مبدأ التسامح والعيش المشترك، وهو مجتمع أخلاقي عقلاني يتخذ من التفكير النقدي أساساً له في التطور، فيرفض العنف والتسلط من خلال تداول السلطة. ويأتي على النقيض منه المجتمع المنغلق، وهو مجتمع استبدادي- حتى وإن حكمه استبداد الأغلبية- تكبله أغلال الأصولية، فتعمل على شل حركته وتزييف وعيه الجمعي بشكل مبرمج ومؤدلج بوسائل الإكراه والتخويف، فينتشر فيه النفاق والرياء والكذب لا محالة، فوحدهم الأحرار هم الصادقون، ووحده المناخ الحر يصنع الفكر الحر... أما ذلك المجتمع المزيف فهو سجن كبير لا يعي المرء مدى حلكة ظلامه إلا حين يخرج منه ليتنفس هواء الحرية ويرى ألوان الحياة الفاقعة.
لذا فسؤال المواطنة يسبقه سؤال أشمل وأعمق وهو كيف نفتح مجتمعاتنا كما فعل الأوروبيون الذين تخلصوا من أصوليتهم وتطرفهم؟ وهنا لا نعني الدين ولكن التعصب والتحجر، فلا تزال تلك المجتمعات محافظة على دينها، بل إن مؤسساتها الدينية تنعم بالحرية والاستقلال... يجيب المفكرون كأركون وهاشم صالح عن سؤال الخروج من مأزق الأصولية بضرورة خوض المعركة الفكرية كالمعركة الشاقة المُضنية التي خاضها المفكرون الأوروبيون قبل ثلاثمئة سنة، ولا علاج سواها "فالعدو هو داخلنا وفي أعماق أعماقنا"، على أن تكون المعركة من داخل التراث حيث تتمكن من "ردم الفجوة" الحضارية التي أحدثتها الأصولية حين انتصرت على التراث الإسلامي العقلاني المستنير قبل سبعمئة سنة، ليدخل بعدها إلى عصر الانحطاط، وهي سنوات عجاف رسّخت فينا الوعي المزيف عن مثاليات التاريخ وخرافاته وشعوذاته، فنسينا النزعة الإنسانية التي حوت تلك الفلسفات الإسلامية التنويرية، لذا دعا أركون وهاشم صالح وغيرهما إلى ضرورة تدريس فكر الجاحظ والتوحيدي ومسكويه وابن رشد والفارابي وغيرهم، عوضاً عن حشو المناهج المفخخة في العقول الغضة، بل وطالبوا بتدريس الفلسفات التنويرية الأوروبية التي استفادت من الفكر العقلاني للفلاسفة المسلمين، لتحمل مسيرة النهضة قيماً إنسانية عالمية تجتمع فيها الحضارات وتتواصل، لا كما يعتقد البعض أنها تغريبية انسلاخية. لذا فاستيراد قشور الحضارة وشكلياتها كالأدوات الديمقراطية واستهلاك سلعها دون تطبيق قيمها الليبرالية كحقوق الإنسان ونسبية المفاهيم والتسامح لن تمكننا من تجاوز السد الأصولي المنيع، الذي لم يجلب إلا البؤس والاستبداد والفساد والطائفية المقيتة. فالمواطنة لا تتحقق في المجتمعات الأصولية المنغلقة إنما في الدول الليبرالية المُنفتحة.