بيل كانتو الاحزان


نشر في 17-12-2009
آخر تحديث 17-12-2009 | 00:00
 فوزي كريم في القرن التاسع عشر تميزت مرحلةٌ في تاريخ الأوبرا الإيطالية، امتدت بين الموسيقيين الشهيرين «روسّيني» و»فيردي». من خصائص هذه المرحلة وضوح ظاهرة «المغني النجم»، فائق الصوت، والأداء، يُسمى «بيل كانتو». حتى صارت الأوبرا تؤلَف على قياس صوته. ومن أشهر موسيقييها «دونيزيتّي» و»بِلليني».

كان دونيزيتّي (1797-1848) غزيرَ الإنتاج بصورة استثنائية. وضع قرابة سبعين أوبرا في مدى ربع قرن، مع قصر حياته، كان، منذ منتصف سن العشرينايت، تحت الطلب في إنجاز ثلاث أو أربع أوبرات (هزلية أو جدية) في السنة الواحدة، اجتاحَ الساحة الإيطالية أولاً، ثم عابر إلى باريس وفيينا. لم تكن حياته حلقاتِ من انتصارات متواصلة، فقد تعرض مع نجاحه إلى نوبات فشل، وكوارث موت. فقد مات أبوه، وأمه وزوجته على التوالي. وفي سن الخمسين في فيينا حلّ به شللٌ، والتياثُ عقل بصورة مفاجئة، فبقي عاجزاً سنتين، إلى أن نُقل في شبه غيبوبة دائمة ليموت في مدينته الإيطالية بيرغامو.

متابعة نتاج دونيزيتي لمحبي الأوبرا ليست شاقة، لأن أعماله الكثيرة تداولتها دورُ الأوبرا الشهيرة، ودور النشر، والنقاد، فانتخبت منها ما وجدته جديراً بالديمومة. ولعل دار النشر Rara، التي عنيت منذ تأسيسها على يد رجل الأعمال بيتر مورِس ببعث الأعمال المنسية، تقف في مقدمة من أعطى للموسيقي دونيزيتي مكانته التي يستحقها. فقد أصدرت له حتى اليوم تسعة عشر إصداراً، لتشكل الإصدارات أغنى مكتبة أوبرالية لموسيقي موزع بين دور النشر بصورة تشي بمشاعر النسيان لدى المتتبع.

المولع بفن الأوبرا يعرف أن هناك أعمدة ضوء تنتسب لدونيزيتّي وحده، تقف في مقدمتها أوبرا «عروسة لاميرمور»، إلى جانب أوبرا «إكسير الحب»، و الكوميديا الأثيرة «دون باسكويل». وشحة عرض أوبراه قد يعود إلى شحة وجود أصوات فائقة القوة بين المغنين، ترقى إلى مستوى (البيل كانتو)، التي أشرت اليها. على أن بين يدي إصدار DVD عن دار Deutchevgrammophon لـ»عروسة لاميرمور» (أو «لوتشيا دي لاميرمور») يكفيني مشقة الخروج من البيت الدافئ. حكاية هذه الأوبرا، التي وضعها دونيزيتّي في شهر من الزمان عام 1835، مأخوذة عن رواية الاسكتلندي والتر سكوت، وتتحدث عن قصة حب تحت وطأة ظروف شائكة. إنها تشبه حكاية روميو وجوليت. لأن الطرفين ينتسبان إلى عائلتين متعاديتين، وينتهيان منتحرين. الشابة لوسي (أو لوتشيا) تُخدع برسائل مزورة من حبيبها وخطيبها أدغار يهجرها فيها دون علة، مع أنهما اتفقا على عقد زواج سري مقدس. والأخ هينريك يفبرك الرسائل من أجل بعث اليأس في داخلها، وتزويجها لحليف العائلة الثري آرثر، كي يعيد توازن العائلة المنهارة مالياً. هي تُجن من وطأة اليأس من فقدان حبها الأثير، ووطأة القسر الذي لا رحمة فيه، وتقتل الزوج ليلة العرس، ثم تسقط ميتةً. والعاشق، الذي كان ينتظر الأخ العدو للمبارزة، يعرف بخبر جنون وموت لوتشيا فينتحر. الحدثُ لا يأخذ طاقته الدرامية إلا مع الموسيقى التي تحمل النص الشعري إلى المستمع، المشاهد. وموسيقى دونيزيتّي تتألق لتوفر للمشاهد أكثر من عنصر لهذه الطاقة. ولعل أهمها هو العنصر السيكولوجي. فكثير من المشاهد تنطوي على تعارضات مُحكمة التوتر: بين لوتشيا وأخيها، وبين الأخ والعاشق. ثم يقف مشهد جنون لوتشيا الشهير في القمة، وهو يمتد لقرابة عشرين دقيقة بالغة التوتر، لا من حيث الأداء التمثيلي وحده، بل الأداء الصوتي الغنائي. فالمشهدُ مليء بالتلوّن الصوتي (ويُسمى كَلَراتورا)، وهو أداء عادةً ما تستثمره المغنية لإبراز قدرات حنجرتها. ولكن السوبرانو الشهيرة ماريا كالاس، في تسجيل لها في الخمسينيات، تجنبت زحمة التلوين في أدائها لهذا المشهد.

السوبرانو الروسية آنّا نيتريبكو (مواليد 1971) في هذا التسجيل، أدت مشهد الجنون بكل تلويناته الصوتية، وأداؤها على مسرح دار الميتروبوليتان الأميركي أحد أبرز انتصاراتها. 

back to top