في عمل ميلان كونديرا، المدهش (خفّة الكائن التي لا تُحتمل) نزوعٌ عنيدٌ لتخليص الكائن من ثقل الوجود، من كآبة الحياة اليومية. إن الخفّة رافعة النظر إلى العالم، أشبه بمنهج للعيش والكتابة معاً. وقد أشار إيتالو كالفينو إلى عمل كونديرا، باعتباره صياغة روائية عن مرارة وثقل العيش، وهو نقد لاذع عن الوضعية الإنسانية، البائسة، وعن تلك الشبكة الرهيبة من الاشتراطات العامة، التي تطوّقُ الكائن باستمرار. حتى لو كان كونديرا يتأمل من ضمن ما يتأمل وضعية بلده «الأصلي».

Ad

ولأن كونديرا يكشفُ لنا في الأخير، مصائر وأقدار كينونة الإنسان. هل أراد أن يعلّمَنا خفّة الطيران؟ ربما، لكن الثمن دائماً ما يكون باهظاً، كما في أسطورة إيكاروس والشمس.

لقد كان دون كيشوت، ذو النظرة الحزينة، أكثر الفرسان خفّة. ولكي يستطيع التحايل- ولو مؤقتاً، وفي أحلامه- على العالم. استخدم المفارقة والسخرية في المأزق الذي وضعه فيه ثرفانتيس، وهو يسخر من رواية الفروسية السائدة في عصره. وهكذا يتحول دون كيشوت إلى سيد المفارقات الكبرى. إن نزوعه الى العدالة ورد الطغيان يحوّله الى كائن حالم. وعندما يحارب طواحين الهواء، لن تثنيه كلمات تابعه، سانشوبانسا، بأنه في الحقيقة يحارب أوهامه، وان طواحين الهواء، أبداً لم يكونوا فرساناً ذات يوم. في ألف ليلة وليلة تنجح شهرزاد، للتخلص من ثقل الموت، وهو ثقل رهيب، بحيث يبدو أن أي خلل في الحكاية، سيكون سيفاً معدنياً، ثقيلاً، مصلتاً، باستمرار على عنقها الفاتن، والشفاف. أليس شهرزاد هي دائماً الأصغر والأجمل. غير أن شهرزاد تمتلك هنا سلاحاً فعالاً، تنقذُ به نفسها وبنات جنسها، إنه سلاح الخفّة، والحكاية. لأن شهرزاد كانت في الواقع تتلاعب بالزمن. إن الزمن هنا مفتاح الحياة والموت. أين تكمنُ الخفة في شهرزاد؟ في الحكاية وعلاقتها بالزمن والمخيّلة. تلك المخيّلة التي تنسج المغامرات، وهي مغامرات قد تستغرق فعلياً زمناً طويلاً، وقد تكون دهراً كاملاً. لكن المخيّلة عند شهرزاد وهي تحت ثقل الموت، لا تجد إلا وسيلة إرجاء مبدأ الذروة الجنسية المميتة حقاً. لقد نسي أو على الأصح، أغفل شهريار الزمن، نهائياً، بحضورِ خفّة شهرزاد التي امتدّت على مدى ألف ليلة وليلة، أي إلى ما لا نهاية، وفق رؤية بورخيس الثاقبة. هل كان عنصر الزمن ثقيلاً عند شهريار؟ ألهذا لم يكن يَتحمل الخفّة؟ ألهذا كان يقتل وبالتالي كان ضحية الرتابة اليومية وقيودها؟! لكن ماذا عن شهرزاد إذا أدركنا أن عليها أن تحكي حكايات لا تنتهي أبداً. لقد سجنت شهريار في دورة الزمن الذي لا ينفذ. ترى ألن تملّ شهرزاد أيضاً من متاهة الحكاية؟ لنعد إلى رواية أخرى لكونديرا وهي رواية (البطء) انه عمل يستحث فكرة الزمن على نحو هائل. (البطء وعلاقته بالزمن والإيروتيك). يتساءل كونديرا لمَ اختفت متعة البطء؟ «آه أين هم متسكعو الزمن الغابر؟ أين أبطال الأغاني الشعبية الكسالى، هؤلاء المشردون، الذين يتسكعون من طاحونة إلى أخرى وينامون تحت أجمل نجمة؟». لم يعرف كونديرا ربما أن شهرزاد هي واحدة من المتسكعات الكبيرات عبر الزمن، لهذا أرجأت مبدأ اللذة.