أصدر الشاعر إبراهيم الخالدي ديوانه الأول «دعوة عشق للأنثى الأخيرة» 1994، وهو ديوان محكم البناء مكتنز كصدر ناهد في ربيعها الأول. الأوزان الشعرية المتقنة، الصور المتتالية، البوح الوجداني الحميم كلها أمور تأسر القارئ. قرأت هذا الديوان للمرة الأولى عام 1995. لم يكن يمضي حينئذ على وجودي في الكويت أكثر من سنة. حين ذهبت لأسأل عنه في معرض الكتاب أخبرني مسؤول الفهارس أن ثمة آخرين سبقوني إلى السؤال عنه. حظي الديوان حينئذ بتغطية إعلامية يستحقها. هذا الاحتفاء لم يكن لديوان الخالدي وحده، وللأمانة فإن كثيراً من شعراء التسعينيات الذين أصدروا دواوينهم في تلك الفترة، نالوا حظاً جيداً من المتابعة الإعلامية، ومن هؤلاء: سعدية مفرح، صلاح دبشة، دخيل الخليفة.

Ad

باستثناء قصيدتين ومقطع شعري أخير يبدو الديوان مليئاً برائحة الأمكنة: لندن، قطار طنجة، «ما رفا الغيث من مسافة»، و«ما حكاه الغيم لعباس بن فرناس».

لماذا المرأة تحديداً؟ ولماذا أطلق الخالدي على ديوانه «دعوة عشق للأنثى الأخيرة»، هل ذلك بحكم التجربة الأولى التي غالباً ما تكون المرأة محفزاً أساسياً للكتابة فيها؟ أم أنه مشروع شعري أراد الخالدي أن يجاهر به ويعلن حبه عبر الملأ. ليس بالضرورة أن تكون حكايات القصائد واقعية، فالخيال محفز آخر للشعراء، ولم يكن ذلك خاصاً بالتجربة الأولى وإنما هناك شعراء امتدت تجربتهم أعواماً طويلة، جعلوا من المرأة مرتكزاً أساسياً لقصائدهم، وربما كان النجاح حليفاً لبعضهم.

لست هنا في مجال تقييم تجربة الخالدي، فالديوان الذي أشرت إليه يدلنا على أننا إزاء شاعر ولد مكتمل النضج، ومحكم الأداة الشعرية. حين عدت إلى قراءته قبل عدة أيام وجدت أنه مازال قادراً على صنع الدهشة، على الرغم من مرور أكثر من خمسة عشر عاماً على صدوره، وبرأيي فإن جمالية هذه القصائد تعود إلى الصورة الشعرية التي تقوم على عنصر التشبيه. قد يلجأ جميع الشعراء إلى التشبيه سواء المباشر مكتمل الأدوات، أو ذلك الذي يقوم على الوصف، وتصوير المشهد، إلا أن ما يميز الخالدي أنه لم يكن مستهلكاً لصور شعراء سابقين، ولم يلجأ إلى التقليد، وإنما تنبع صوره الشعرية، من الحالة الوجدانية التي تعتمل داخله، وتحرك فيه شهية الكتابة. يقول:

«لأن الجديلة كافرة

تشرك المسك دوماً/ بحلو الخضاب

أحبك جداً

وأهوى الطيور التي تستحم

إذا نحن جئنا

وحين نروح... تُراع

كفرت بحب يوحد وجه النساء

وآمنت بالحب فرداً

ومثنى

ثلاثاً

رباع»

ولا يغيب عنا هنا عنصر القافية التي أضفت جمالاً آخر إلى هذا المقطع، عوضاً عن الصورة، والإيقاع الشعري العالي النبرة.

يقول في مقطع آخر من قصيدة تحمل اسم الديوان ذاته: «وها جئتِ/ ها جئتِ/ حضن الحديث/ ولست أريد سوى الارتماء../ رأيتك/ صبحاً ندياً يغني../ وكم تعرفين أحب الغناء/ عيونك جاءت تجاذب ثوب النجوم/ وتركض نحوي/ لتدخل فيّ قبيل حلول المساء».

لم ينل هذا الديوان نصيباً وافراً من الشهرة خارج الكويت، نظراً لأن الشاعر طبعه في مطبعة خاصة، وربما يكون اعتمد على جهود شخصية في مسألة التوزيع، ولو أن طباعته جاءت عبر إحدى دور النشر العربية التي تشارك في معارض الكتب، وتسوق مطبوعاتها عبر الإنترنت لوصل إلى كثير من القراء خارج الكويت، والخليج. ولعلني أجدها فرصة مناسبة لأنصح الشاعر بطباعة ثانية للديوان. فشعر كهذا لا يمكن له أن يموت أو يظل أسير كتاب محدود التوزيع.

بقي أن أشير إلى أن الخالدي أصدر بعد ديوانه الأول هذا ديوانين هما: «عاد من حيث جاء» (1997). و «احتمالات المعنى» (2005) ثم توجه بعد ذلك إلى التأليف في مجال التراث وتحقيق المخطوطات، الأمر الذي نتوقف عنده في جزء لاحق من هذه الزاوية.