«فلنجتمع هنا معاً و (نخزِّن) ونتحدث ولكن بروحية أخرى تتناول أحداثاً ليست على ما تعودنا عليه»... هكذا بدأ حسين بدرالدين الحوثي (مؤسس جماعة الحوثيين) مناظراته «المقدسة» التي نسخت ووزعت في أشرطة وكتيبات داعياً إلى عودة حكم الإمامة الذي انتهى في 1962 من خلال رفض النظام الديمقراطي الذي يقوم، حسبن رأيه، على استهداف «الحق الإلهي»، فتأسست جماعة الحوثيين في صعدة شمال صنعاء على مرحلتين، حيث بدأت كمنتدى يدعى «حركة الشباب المؤمن» في أوائل التسعينيات ويعنى بتدريس الشباب مذهب الزيدية «الحوثية» القريبة من الفكر الاثني عشري (الذي يرفضه الكثير من الزيديين) بهدف مواجهة الفكر «السلفي» الآخذ في الانتشار في اليمن. أما المرحلة الثانية فبدأت منذ 2004، وهي مرحلة التمرد المسلح والمواجهة العسكرية مع الدولة، وهي السنة التي قتل فيها حسين الحوثي إثر مواجهة عسكرية مع الجيش، ليحل محله أخوه عبدالملك الحوثي، الذي يقال إنه يدير المعارك من إيران.

Ad

تتهم الدولة الحوثيين بالسعي إلى إسقاط نظامها وتهديد أمنها واستقرارها، ويبرر الحوثيون تمردهم بتهميش الدولة لهم واضطهادهم وقمعهم، إلا أن الجيش اليمني لم يستطع حتى اليوم القضاء على هذه الجماعة لما توفره الجبال الوعرة من حماية أمّنت بقاء الحوثيين الذين دخلوا خمس حروب، آخرها الحرب الشاملة التي شنها الجيش اليمني في أغسطس الماضي والتي شردت الآلاف وخلّفت حالة إنسانية مأساوية، ولايزال الحوثيون باقين وصامدين الأمر الذي يثير الكثير من الشكوك حول تمويل ودعم إيران لهم، خصوصاً أنهم يتبنون نفس الأدبيات والشعارات، كما أن الجماعة تلقى تعاطفاً وتأييداً كبيرين في الإعلام الإيراني.

ويهاجم الحوثيون اليوم الحدود السعودية بحجة سماحها للجيش اليمني باستخدام أراضيها، لترد عليهم الرياض بهجوم عسكري لإبعادهم عن الحدود، ولاتزال المعركة دائرة، ورغم تفاؤل الكثير بنجاح السعودية في إبعاد الحوثيين، يحذر عدد من المحللين من تحول هذه الحرب إلى «حرب بالوكالة» مع إيران، التي يعتقد أن لها يداً طولى في هذا الشأن، الأمر الذي قد يهدد أمن المنطقة برمتها لاسيما بعدما أحاطتها الجيوب والدويلات الإيرانية في لبنان وفلسطين والعراق وأخيراً اليمن، ساعية بذلك إلى تحقيق الحلم القديم في صنع دولة لها الثقل الأكبر والنفوذ الأوسع في المنطقة بالتزامن مع سعيها الحثيث إلى امتلاك تكنولوجيا نووية.

لم يكن الحوثيون، كما يبين المراقبون، صنيعة إيرانية صرفة، بل هي أجادت كعادتها توظيف الظروف الداخلية في صراعها الخارجي، ولعبت على الأوتار جميعها، فلم تكن العقيدة باعثها الأساسي، بل كانت السياسة غايتها والأدلجة وسيلتها، وإلا لما دعمت «الإخوان المسلمين» الذين يختلفون معها اختلافاً جوهرياً، فاستغلت الفشل الذريع في بناء مشروع الدولة والمواطنية والفساد المستشري في اليمن وما نتج عنه من حروب قبلية بلغت المئات، وانقسام طائفي ضارب في الجذور، لتلعب تلك القوى الخارجية بمهارة وحرفية على وتر المظلومية والتهميش ونصرة المستضعفين (كما فعلت في لبنان حسب تحليل د.تركي الحمد)، واستخدمت شعارات محاربة أميركا وإسرائيل، وكانت فيها التعبئة المذهبية وقودها الرئيسي ومصدر قوتها وطاقتها، كما هو واضح في خطاب حسين الحوثي الذي يقول «لنحمل هذه الفكرة ونمضِ بها الى أرض الواقع... ليس علينا أن نخشى أننا قلة، وليس علينا أن نخشى أن أسلحتنا بسيطة، وليس علينا أن نخشى مواجهة دولة لها جيوش وعروش، فموسى هزم فرعون رغم أنه ليس معه سوى عصاه التي يهش بها على غنمه... و»حزب الله» لا يملك ما تملكه إسرائيل، لكنه انتصر... وإيران أضعف من أميركا وإسرائيل، لكنها هزمتهما»، هذا هو الجواب لكل من يتساءل عن جرأة الحوثيين في المواجهة مع السعودية دون أخذ موازين القوى في الاعتبار.

تلك هي «الدوغما» التي يجتمع عليها الأصوليون في كل زمان ومكان (سواء السُنيّة أو الشيعية أو أي مذهب أو ديانة أخرى)، تلك الأطراف التي تدعي الحق الإلهي، تتشابه في اللغة والأسلوب والسلوك في إلهابها الحماس الديني للشباب، واستغلالها حريات الغرب (التي يكفرون بها) في اللجوء السياسي ليستفيدوا منها في التعبئة المذهبية، واختطاف الأجانب والسياح وتصفية الآخر، واستخدام الأطفال كدروع بشرية وتفخيخهم وإقحامهم في المعارك، ومحاربتهم لقيم الإنسانية والمواطنة والحداثة... تلك هي الخطر الأكبر على هذه المنطقة الجالسة على صفيح ساخن.