«انبطت الجربة»!
سؤال النائب أحمد السعدون بشأن تضارب المصالح في المجلس الأعلى للبترول جاء ترجمة واقعية ودقيقة ومباشرة، ومهّد الطريق لفتح ملفات الفساد بكل أنواعه في مرافق الدولة وهيئاتها ومناجم الذهب فيها, وكان جواب وزير النفط في هذا الخصوص من الوضوح والشفافية الأمر الذي يستحق معه وسام التقدير والجدية التي نتمنى أن تكون حكومية, وليست اجتهاداً شخصياً للسيد الوزير فقط، في التعاطي مع هذا الحصن الحصين وبقدر من المسؤولية.فجواب الشيخ أحمد العبدالله يجب أن يكون نموذجاً نمطياً ومعيارياً لطريقة ردود الوزراء عن أسئلة أعضاء مجلس الأمة, ليس فقط من حيث المبدأ الدستوري في أداء العمل بالأمانة والصدق, بل إشراك أصحاب الشأن في تحمل مسؤولية المعلومات والبيانات التي تودع في الأمانة العامة للبرلمان وتنشر في الصحافة ويطلع عليها عامة الناس.
كما أن جواب وزير النفط بالتأكيد سوف يفتح أحد أهم الملفات وأخطرها، وهو ملف التنفيع والاستفادة المباشرة من بعض مواقع اتخاذ القرار، خصوصاً ذات الطبيعة المالية, فلا يعقل بأي حال من الأحوال ومهما كانت التبريرات والتفسيرات أن يكون جميع أعضاء المجلس الأعلى للبترول باستثناء عضو واحد فقط من ملاك وأصحاب الشركات النفطية التي تتعامل بشكل مباشر مع هذا القطاع، وتبرم معه الصفقات والعقود المالية التي تبلغ مئات الملايين من الدنانير.وهذا المبدأ يسري على المعاملات الصحية في إجراءاتها، التي لا يشوبها شبهة الحرام أو التجاوزات القانونية, فما بالك بتلك التي تتم ترسيتها وتتحدد مبالغها وفق مسطرة التحايل والنفوذ وتمرر من الأبواب الخلفية؟! وكانت دواعي التورع وإبعاد النفس عن أي نوع من المساس وجبّ الغيبة عن الذات تقتضي أن يتقدم أعضاء المجلس الأعلى للبترول باستقالاتهم فور نشر الجواب البرلماني, بل كان الأجدر بمجلس الوزراء التأكد من عدم وجود ضميمة تعارض المصالح قبل توليتهم في مثل هذا الموقع, بل كان من أنقى صور الفروسية وإنكار الذات ألا يقبل هؤلاء الأعضاء بمثل هذا العرض أو على الأقل تصفية أعمالهم التجارية الخاصة في سبيل القيام بهذه الخدمة العامة.وتزداد قيمة هذه المثل العليا في ظل وجود حزمة من التشريعات المتفق عليها بين المجلس والحكومة، والمدرجة ضمن الأولويات المعتمدة بين السلطتين في إقرار قوانين الشفافية ومكافحة الفساد ومنع تضارب المصالح والإقرار بالذمة المالية، تمهيداً للإجابة عن سؤال من أين لك هذا, وهي تشريعات أصبحت من متطلبات النهوض بالديمقراطية في دول العالم قاطبة.فلم تكن ردود فعل بعض أعضاء المجلس الأعلى للبترول في إصدار بيانات وتصريحات صحفية لتبرئة ساحتهم أو تبرير وجودهم على رأس هذا الجهاز موفقة، ليس من باب التشكيك بذممهم المالية أو المساس بكرامتهم الشخصية, ولكن لأن وجودهم في هذا المكان وببساطة شديدة خطأ بل خطأ جسيم.ولكن يبقى تحريك المياه الراكدة من خلال مناقشة مسألة تضارب المصالح في العلن قضية حيوية، ولو أتت متأخرة كثيراً، حيث طارت الكثير من الطيور بأرزاقها، وحان الوقت لإغلاق هذا الباب للأبد.ولعل الكرة أصبحت اليوم في ملعب الحكومة والمجلس معاً, فالمسألة لا تتعلق بالمجلس الأعلى للبترول فقط, بل بالكثير من مواقع القرار المهمة في الدولة, ولم يكن حديث الدواوين والمنتديات والإشاعات مجرد وهم أو تطفل أو حسد كما يروج البعض, ولكنه أمر واقع وترسانة ضخمة لم يكشف عنها النقاب بهذه الجرأة من قبل, ولهذا فإنه من المهم أن يتم توجيه نفس السؤال البرلماني السعدوني بشأن جميع المجالس والهيئات والإدارات العليا التي تضم أعضاء لهم علاقات تجارية مباشرة وغير مباشرة معها, والأهم من ذلك أن تكون الإجابات عن مثل هذا السؤال بجرأة وشفافية جواب الشيخ أحمد العبدالله حتى "نبط الجربة" كلها!