إنجازان احتفاء بكلكامش

نشر في 17-03-2011
آخر تحديث 17-03-2011 | 00:00
 فوزي كريم في مدينة نيس الفرنسية، وداخل غرفة مُشرَعة على المتوسط، وتحت شمس حائرة بين آخر الشتاء وأول الربيع، ووسط كتب عديدة، كنتُ في صحبة «كلكامش» من جديد في كتابين: رواية مترجمة («كلكامش: ملك أوروك» للألماني توماس ميلكه وترجمة نبيل الحفار ـ دار قدمس للنشر)، ونص شعري عربي («ملحمة كلكامش»، صاغها شعراً ابراهيم محمد نصار ـ المجمع الثقافي، أبوظبي).

كثيراً ما عرضتُ في الصحافة الأدبية لكتب في الإنكليزية تترجم ملحمة «كلكامش»، نثراً أو شعراً، آخرها كان «مسرحية كلكامش» للشاعر الاسكتلندي، الذي رحل العام الماضي، أدوِن مورغان. ولكني لم أتخيل عملاً روائياً، يلتزم الحدث الملحمي، ولا ينصرف عنه للمخيلة، يمكن أن يُغني القارئ بالتفاصيل المفتقدة في النص القديم، بالصورة التي رأيتها في هذه الرواية الألمانية.

حماسي في القراءة لم يكن وليد جودة النص وحده بالتأكيد. هناك عناصر شخصية إضافية. فأنا اطمع دائماً في الانتفاع من الملحمة العراقية الخالدة بكتابة نص شعري، يلتحم فيه التاريخ بالأسطورة، والشخصي بالموضوعي، والواقعي بالمتخيّل. أطمع بذلك لأني أتوهم قرابة ما تجمعني ـ أنا ابن فسائل النخل، والطمي، ورائحة السعالى، والقفّة والكلك النهريين، وبطلان الخلود، والتعارض الدامي الداخلي بين الله والشيطان ـ بذلك الزمن الأسطوري الذي ما زلت أشم رائحته في الطمي الربيعي لدجلة والفرات.

الرواية قّربتني من هذا الهاجس بصورة موفّقة. والعمارة الملحمية فيها تجدها مكتملة، وعيانية بفعل التفاصيل الغزيرة: في معترك الآلهة مع بعض، وانصياعها لأهوائها، وحروبها مع الإنسان. وبفعل نزعة البطولة التراجيدية لدى بطليها، وحمى الإرادة في الكشف عن المستور. وبفعل حركة الشخوص التي تشبه خيوط شبكة شائكة، ولكن مُحكمة. وهي، بالرغم من ضخامتها (550 صفحة)، تندفع كالحمى الشعرية التي تُفقدك الإحساس بالزمن، زمن الحاضر وزمن القراءة.

النص النثري مليء بفرص التأمل. خذ هذا النص بشأن الموسيقى: «ألا يُفترض بالآلهة أن تحس بالموسيقى مثل كلكامش؟» سألت نين سون لاهثةً، فرفع هرّاب يديه بحركة متعددة المعاني، وأجاب كأنه يحدّث نفسه: «ولماذا يُفترض بها، فهي لا تعرف الموتَ أو الحزنَ الحقيقي، لا حسرة الكِبرِ والعجز ولا سعادةَ لحظةٍ وحيدة هاربة من الزمن. لا. نين سون. اعتقد أن الموسيقى الحقيقية لا يمكن أن يبدعها سوى البشر ومن أجل البشر. إنها اللغة التي لن يفهمها أيّ إله. إنها سرٌّ يستمد سحره من أشواق وذكريات كامنة في زوال اللحظة». (ص236)

إحدى عبارات الشاعر الأميركي والاس ستيفنس المؤثرة حول الشاعر قوله: «إنه راهب اللامرئي» الشاعر السومري يرى اللامرئي رؤية كلكامش:

«وفي اللحظة نفسها شعر كلكامش بحركة اللامرئي. كانت أشبه باصطفاق أجنحة وكطنين ألف ذبابة قارصة وكطقطقة أسراب جراد...» (ص364).

لا أعرف عدد المحاولات التي أنجزت الملحمة شعراً في العربية. على أن الأستاذ سامي سعيد الأحمد الذي ترجمها عن الأكدية، يقول في مقدمته لكتاب صياغة الشاعر إبراهيم محمد النصار للملحمة إن هناك أربعةً حاولوا ذلك ولكنهم أخفقوا في المسعى. نجاح الشاعر إبراهيم في الصياغة كاملة محاولة بارعة. وبراعتها تكمن في عناصر عدة: محاولته إنجاز النص في الصياغة التي تعتمد وحدة البيت، والتقفية التقليديين، نجاحه في توفير حد معقول من الطواعية الشعرية تحت هيمنة شَرطيْ الوزن والقافية، براعته في احتواء كل تفاصيل الحدث في النص الأصلي، بما فيه من أسماء آلهة، وأبطال، وأماكن، دون عنَتٍ أو قسر.

ولكن هذا التحدي المثير للإعجاب لن يخلو من فضلة لفظية في كل مقطع، يفرضها سياق الوزن وحكم التقفية. ولأن الشاعر اعتمد تفعيلة «فاعلاتن»، لبحر الرَمل، مكررة أربع مرات، على امتداد الملحمة، فقد تيسر له، لو تقبل شيئاً من حرية الشعر الحر، ألا يلتزم بها أربعاً. ويكتفي بين الحين والحين بالعدد الذي يقتضيه المعنى.

إلا أن هذا الإنجاز للشاعر النصار، وسط العجز الملحوظ في ترجمة الشعر شعرا سيظل إضاءة تستحق كل الإعجاب والتقدير.

back to top