لماذا لا يرحلون؟
يعبد نفسه لدرجة أنه يموت وهو يتأمل جمال انعكاس وجهه على سطح البحيرة ويتحول إلى زهرة النرجس... ذلك هو «نارسيسوز» الإله الإغريقي الذي تنسب إليه النرجسية؛ الخاصية النفسية التي تشير إلى حب النفس، وحب النفس ظاهرة صحية ومرحلة مهمة من مراحل النمو النفسي الطبيعي إلا أنه يتحول إلى مرض يشوه نظرة المرء لنفسه ولواقعه ومحيطه؛ يحول دون حب الآخرين والتعاطف معهم.
يرى النرجسي نفسه كحالة خاصة ومميزة عن باقي العالم، لذا يمتاز بالتغطرس والغرور؛ يعزز ذلك شعور بالعظمة اللامتناهية وتعطش دائم للسلطة والقوة والتملك.ولا يرى أو يحترم النرجسي حدودا للآخر، ولا يملك القدرة على التعاطف مع الضعيف أو البائس، ولا يؤثر فيه ألمه أو معاناته، وهو شخصية حسودة غيورة تسعى إلى امتلاك كل شيء يميزها عن الآخر، ويعطيها المزيد من السلطة أو الوجاهة أو القوة. وتحيط الشخصية النرجسية نفسها ببطانة تكيل لها المديح وتعزز الشعور بالعظمة والاستعلاء لديها، في حين تتعامل مع هذه البطانة باستصغار وامتهان وريبة تدفعها للبطش بأقرب المقربين لأدنى الأسباب من دون تردد أو ندم. هذا كله يغيم على حواس النرجسي ومداركه كافة، فلا يمكنه رؤية الأمور أو تقييمها بصورة موضوعية، وتزيد البطانة المنافقة والجبانة في تشويه الصورة والابتعاد أكثر عن الواقع، ففي أحسن الحالات لا يرى النرجسي أي مشاكل أو عيوب في إدارته للأمور، بل العكس قد يرى نفسه ناجحا ومتميزا عن أمثاله، وفي أسوأ الأحوال هو لا يكترث إن كان قد فشل أو أضر بأحد أو بدولة بأكملها، وفي معظم الأحيان– إن ملك الذكاء الكافي– فهو يرى عيوبه أو نواقصه ولكنه مؤمن ألا أحد غيره يمكنه أن يقدم أفضل من ذلك وأن البدائل بالتأكيد أسوأ وأفظع.أما أن يعترف بالخطأ أو الفشل فهو الموت بعينه للنرجسي؛ لأنها تهدم أساس وجوده على الحياة كإنسان كامل منزه عن الخطأ، ولا مكان لمفهومي «الكرامة» أو «الخوف» في قاموسه، فالغرور يطغى على الكرامة، فلا يرى في رفض الناس أو استحقارهم ما يعيبه، بل العكس يعزز لديه الشعور بالفوقية والتميز، أما الخوف فلا معنى له لدى شخص مؤمن أنه خالد وأنه فوق كل قانون للطبيعة والحياة.لذا لن يرحلوا أحياء أو بإرادتهم... فإما بالقوة وإما بالقضاء والقدر!