القضاة مستقلون: "القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضايا أو في شؤون العدالة"... هكذا جرى نص المادة (166) من دستور مصر، ليقرر أمرين:

Ad

أولهما: أن القاضي حر في تكوين عقيدته فيما يقضي ويحكم، وأنه لا سلطان عليه لغير القانون وضميره.

ثانيهما: أنه لا يجوز لأي سلطة التدخل في القضايا أو في شؤون العدالة.

وهو الحكم الذي جرى به دستور الكويت في المادة (163) التي تنص على أنه "لا سلطان لأي جهة على القاضي في قضائه، ولا يجوز بحال التدخل في سير العدالة، ويكفل القانون استقلال القضاء...".

قرار المجلس الأعلى للقضاء: وقد جاء حظر التدخل في القضايا أو في شؤون العدالة عاماً ومطلقاً، سواء في الدستور المصري أو في دستور الكويت والأصل في الحكم العام أن يسري على عمومه وفي الحكم المطلق أن يجري على إطلاقه، فيسري هذا الحظر على كل سلطة ولو كانت سلطة المجلس الأعلى للقضاء.

وقد أكد مشروع الإعلان العالمي لاستقلال القضاء هذا المعنى في ما نص عليه من أن "القضاة مستقلون في عملية اتخاذ القرار، إزاء زملائهم ورؤسائهم في السلطة القضائية، ولا يجوز أن يكون لأي نظام هرمي في السلطة القضائية ولا لأي فارق في الدرجة أو الرتبة، التدخل بحق القاضي في إصدار حُكمه بحرية".

والحكم ليس القرار النهائي الذي يتخذه القاضي حسما للخصومة، بل هو مجموعة الإجراءات والضمانات التي سبقت صدور الحكم، وهو علانية الجلسات التي عقدها القاضي أو سريتها، ومن هنا يقع قرار المجلس الأعلى للقضاء في مصر في المأزق الدستوري والقانوني باعتباره مساسا بحق القاضي وحريته في إدارة جلسات المحاكمة وحقه في أن يسمح أو لا يسمح بنقل أو بث أو تسجيل أو إذاعة وقائع المحاكمة التي تجري أمامه.

تعزيز استقلال السلطة القضائية: والواقع أن استقلال القاضي جاء مكملا ومعززا لاستقلال السلطة القضائية، وهو الاستقلال الذي تستمده من المادة (165) من الدستور المصري التي نصت على أن "السلطة القضائية مستقلة، تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها، وتصدر أحكامها وفقا للقانون".

ومؤدى هذا النص أمران:

أولهما: استقلال السلطة القضائية: وهو استقلال، جاءت المادة (166) التالية لهذا النص لتعززه وتؤكده، ذلك أنه لا قيمة لاستقلال هذه السلطة في خضوع الدولة للقانون وفي تجسيد رسالة القضاء باعتباره حصنا حصينا للحقوق وملاذا أمينا للحريات، إذا كان القاضي لن يكون حرا ومستقلا داخل هذه السلطة، أو كان القاضي سوف يخضع لتسلسل إداري ولتبعية إدارية داخلها، بحيث يأتمر بأوامر رؤسائه فيما يفصل فيه من قضايا ومنازعات.

 ثانيهما: أن السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها فيما تصدره من أحكام.

 وقد جاءت المادة (53) من دستور الكويت مؤكدة هذا المعنى فيما تنص عليه من أن السلطة القضائية تتولاها المحاكم باسم الأمير، في حدود الدستور.

واستقلال السلطة القضائية يتمثل في كفالة حق التقاضي لكل فرد، وألا تحول القوانين التي تصدرها السلطة التشريعية بين الفرد وحقه في الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي، وألا تحصن القوانين أي قرارات من رقابة القضاء عليها، وأن تحترم هذه القوانين أحكام المحاكم، فلا يصدر قانون يلغي حكما قضائيا، ولو كان القانون صادرا بأغلبية خاصة، ويتضمن أثراً رجعياً، وأن تكفل السلطة التنفيذية تنفيذ أحكام المحاكم بما لديها من قوة جبرية عند الاقتضاء.

استقلال القاضي الأسبق تاريخاً: وقد عرف القضاة استقلالهم، قبل أن يصبح القضاء سلطة موازية لسائر السلطات وقبل أن تعرف أنظمة الحكم مبدأ الفصل بين السلطات، عندما كان القضاء جزءا من الولاية العامة للحاكم، يعهد به إلى بعض القضاة، وكان الحكام يدعون إلى مجلس القضاء إذا خاصمهم أحد شأنهم شأن أي فرد، فينتقلون إلى مجلس القاضي بكل توقير واحترام، وكان القضاة يتحلون بالشجاعة والجرأة أمام الملوك والحكام، ويرفضون الاستماع إلى شهادتهم في القضايا المطروحة أمامهم.

وقد سوى القاضي محمد بن عمر الطلحي بين الخليفة المنصور وخصمه في مجلس القضاء الذي استدعى الخليفة له فامتثل لأمر القاضي، وحكم القاضي ضد الخليفة.

وعندما عاد الخليفة إلى دار الخلافة، استدعى القاضي الذي ذهب إليه دون خوف أو وجل، فأحسن الخليفة استقباله، وقال له: جزاك الله عن دينك ونبيك وعن حسبك وعن خليفتك أحسن جزاء.

وقد امتنع القاضي أبو يوسف- عندما كان يتولى قضاء بغداد- عن قبول شهادة كبير وزراء الرشيد، فشكا الأخير إلى الخليفة هارون الرشيد الذي استدعى أبا يوسف يسأله عن السبب، فأجاب: "إني سمعته يوما يقول لك أنا عبدك فإن كان صادقاً فلا تقبل شهادة العبد، وإن كان كاذبا فلا تقبل شهادة الكاذب".

كما امتنع القاضي ابن يمين الدولة عن قبول شهادة الملك الكامل من ملوك الدولة الأيوبية في قضية مطروحة أمامه، نأيا بالملك عن التدخل في القضايا، وقال له القاضي تأدبا "الملك يأمر ولا يشهد"، فلما أصر الملك على سماع شهادته، وصمم القاضي على رفض قبولها، اضطر القاضي إلى أن يفصح للملك عن أسباب رفضه قائلا له "إن مثلك لا تقبل شهادته، لأن الناس تتناقل عنك أن المغنية "عجيبة" تصعد إلى مخدعك كل ليلة تتراقص وتتمايل حتى الصباح"، ثم عزل القاضي نفسه، فتوجه الملك الكامل إلى منزله طالبا منه العودة إلى عمله.

ويعيد التاريخ نفسه، عندما يقضي القاضي الشيخ بخيت برفض نظارة الأمير حسين من (أسرة محمد علي)، على أحد الأوقاف الخديوية لعدم صلاحيته نظارة وقف، وتمضي الأيام ويعين الأمير حسين سلطانا على مصر فيستدعي القاضي الشيخ بخيت إلى دار السلطنة، فيذهب إليه الشيخ بخيت شامخا، فيسأله السلطان حسين، لقد قضيت بالأمس، بأنني لا أصلح لنظارة وقف، فهل مازلت عند قضائك، وقد أصبحت ناظرا وسلطانا على مصر كلها، فيجيب الشيخ بخيت نعم مازلت عند قضائي الذي قضيته بالأمس "ويسكت السلطان حسين لبعض الوقت وقد فاجأته هذه الإجابة، ثم يقول له إذن فأنت أصلح من يكون مفتياً للديار المصرية".