جيلٌ هزم الهزيمة

نشر في 18-02-2011
آخر تحديث 18-02-2011 | 00:00
 لمى فريد العثمان للمرة الأولى منذ نكسة 1967، يشعر الشارع العربي بفرحة النصر الحقيقي غير الكاذب... نصر حققه الشباب بثورتهم السلمية الحضارية الأخلاقية... ثورة شعبية لا قائد لها ولا زعيم، أبطالها أمواج الجموع الهادرة المختلفة والمتعددة التي صنعت الحرية، ثورة لم توظَّف فيها عقائد أو إيديولوجيات كتلك «الثورات» الوهمية التي اختُزِلت بأبطالها، وما هم في الحقيقة إلَّا سارقو الشرعية والإرادة الإنسانية تحت شعارات الوحدة العربية والعدو الخارجي، التي انشغلوا بها عن بناء الإنسان، حتى استبدت بإنساننا الهزيمة وروح الانكسارات وتعوَّد طعم المرارة في حلقه، واعتاد اللطم والنحيب على بؤسه وقهره وعجزه وقلة حيلته... لقد فشل «انقلاب» 1952 الذي أسس لحكم العسكر في مصر فشلاً لا مثيل له... ظنت الشعوب العربية أن هزيمة 1967 ضد العدو الصهيوني هي التي تسببت في ضياع حلمها «التحرري»... لكن الهزيمة الحقيقية هي سجن إنساننا داخل نفسه... داخل وطنه... هي سجن الوطن داخل نفسه... داخل إنسانه... فشلت تلك الحقبة العسكرية التي استمرت حتى 25 يناير 2011 في بناء مشروع دولة المؤسسات الحديثة، التي وصلت إليها المجتمعات الراشدة عبر تطورها التاريخي من المجتمعات العشائرية والإقطاعية التي استبدَّ بها الملوك والنبلاء ورجال الدين، لتتحرر وتخلع النظام القديم وتقيم مكانه قيم العقد الاجتماعي والمواطنة التي صهرت كل العشائر والطوائف والأديان في بوتقتها... لكن مجتمعاتنا ظلت بدائية تحكمها الولاءات الشخصية والطائفية الضيقة، وتسيطر عليها عقلية الوصاية وحكم الفرد رغم الديمقراطيات الزائفة.

تلك النكسة التي أنجبت نكسات وهزائم متوالية أوصلتنا إلى انسداد تاريخي بدأ بتطرف قومي في عهد عبدالناصر، وتطرف ديني في عهد السادات، وحكم طوارئ ورأسمالية متوحشة لا رقابة فيها ولا شفافية في عهد مبارك، يجمع بين تلك العهود الفساد والتعذيب والدكتاتورية، حتى اندثرت ثقافة التعددية والفكر الحر التي كان يتميز بها المصريون قبل عام 1952، وأصبحت الرقابة والرضوخ والسلبية سمة المجتمع، وانعدم الأمل من جدوى دعوات الاستنهاض التي ملَّ مفكّرونا ترديدها، فأخذنا نلوك قصيدة نزار قباني «هوامش على دفتر النكسة»: «إذا خسرنا الحرب فلا غرابة... لأننا ندخلها بكل ما يملك الشرقي من مواهب الخطابة... بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة... لأننا ندخلها... بمنطق الطبلة والربابة... نريد جيلاً غاضباً... نريد جيلاً يفلح الآفاق... وينكش التاريخ من جذوره... وينكش الفكر من الأعماق... يا أيها الأطفال... من المحيط إلى الخليج، أنتم سنابل الآمال... وأنتم الجيل الذي سيكسر الأغلال... ويقتل الأفيون في رؤوسنا... ويقتل الخيال... يا أيها الأطفال أنتم -بعد- طيّبون... وطاهرون، كالندى والثلج، طاهرون... لا تقرؤوا عن جيلنا المهزوم يا أطفال... فنحن خائبون... ونحن، مثل قشرة البطيخ، تافهون... لا تقرؤوا أخبارنا... لا تقتفوا آثارنا... لا تقبلوا أفكارنا... فنحن جيل القيء، والزهري، والسعال... ونحن جيل الدجل، والرقص على الحبال... يا أيها الأطفال: يا مطر الربيع... يا سنابل الآمال... أنتم بذور الخصب في حياتنا العقيمة... وأنتم الجيل الذي سيهزم الهزيمة».

هاهم الأطفال يا نزار... كبروا... غضبوا... كسروا الأغلال... وهزموا الهزيمة... في لحظة تاريخية بدت خيالاً كالحلم المستحيل... آمنّا بأن شعوبنا نائمة لن تفيق أبداً... لكنها أفاقت... وفاقت كل التصورات... هؤلاء هم شباب العصر الجديد... شباب 6 أبريل وحركة 25 يناير وجماعة «كلنا خالد سعيد»، الذين انضم إليهم الآلاف عبر الإنترنت، معبّرين عن غضبهم لتعذيب «شهيد الطوارئ» حتى الموت... هؤلاء الشباب وغيرهم سئموا الروح الانهزامية التي ورثوها عن آبائهم، وملّوا حياة الذل والهوان وعقدوا العزم على أن يعيشوا حياة كريمة... بادروا وكسروا حاجز الخوف، فانكشفت هشاشة الأنظمة بأجهزتها الأمنية والبوليسية التي تداعت وتهاوت كما قصور الرمال... تلك الأنظمة التي لم تحترم إرادة شعوبها في عصر إرادة الشعوب، فقالت لها كما عبّر نزار قباني: «الكبريت في يدي ودويلاتكم من ورق».

التحدي الأصعب اليوم هو بناء عدالة اجتماعية وديمقراطية حقيقية تحمي القيم الفردية والتعددية، وتضمن الحريات وحقوق الإنسان والأقليات... فبدونها سيُستبدَل صنم الطغيان في الحقبة السابقة بصنم دكتاتورية الأغلبية المدمرة التي تعيد إنتاج الاستبداد والإقصاء والفكر الأحادي (التي انتقدناها كثيراً في الكويت)... ذلك هو التحدي الأكبر... فهل تكون مصر نموذجاً للديمقراطية الحقيقية؟

back to top