لا مناص اليوم من الاعتراف بأن الحركة الشعبية في البحرين ومطالبها بالإصلاحات الدستورية، قد تم سرقة أهدافها واستغلالها من قبل المتمذهبين والقوى الثيوقراطية المتصارعة في المنطقة، لتتحول البحرين إلى ساحة تصفية بعد أن تأقلمت القضية وتحولت المنطقة برمتها إلى اصطفافات طائفية خطيرة على الأمن المحلي والإقليمي. فتلوث الهواء بالفيروسات الطائفية القاتلة واختزلت القضية الشعبية المحلية بالصراع السني - الشيعي الذي انتقلت عدواه إلى المجتمعات الطائفية في المنطقة.

أنسانا هذا الصراع أن المظاهرات بدأت سلمية تطالب بالمزيد من الديمقراطية والمزيد من الحريات، تماما كما مطالباتنا هنا في الكويت. لقد خفت صوت العقل وتم تشويه نزعته الإنسانية وسط الصخب والضجيج الطائفي، فتقدم المتمذهبون من الطرفين إلى الصفوف الأولى، وأصبحوا يقودون بعد أن كانوا في الخلف يتمتمون بشعارات لا نكاد نسمعها. نعم كان من بين تلك الأصوات دعوات خافتة لإقامة ولاية الفقيه في البحرين، والتي لا تختلف عن الأصوات التي تدعو عندنا وتسعى إلى «طلبنة» المجتمع عبر «جهادها» السياسي لهدم أسس الديمقراطية وإقامة سلطتها الكهنوتية على أنقاضها، لكن السؤال: هل سيكون لتلك الأصوات قيمة إن انتهجت دولنا الديمقراطية الحقيقية؟

Ad

مَن يراقب الخطاب الليبرالي الحقيقي لمفكرينا في المنطقة، يرَ بوضوح توافقه وانسجامه مع ذاته ومبادئه، فلا يتحرك هنا ولا يتضامن هناك بدوافع مذهبية، إنما يتفاعل مع القضايا بحس إنساني، ذلك أن الفلسفة الليبرالية تتمحور حول الإنسان وحريته وكرامته أياً كان مذهبه أو دينه. أما الخطاب المؤدلج فيتخندق اليوم مع التحيزات الطائفية، بينما لم يتحرك ساكنه بالأمس بدموية السلطة الدينية، وبقي الليبراليون الحقيقيون على مواقفهم لا يتحيزون إلا للإنسان مجرداً من كل الهويات، فتضامنوا بالأمس مع الشعب الإيراني الذي واجه القمع والوحشية ضد الدكتاتورية الدينية، كما دافعوا عن حقوق البدون وحقوق أقباط مصر ووقفوا ضد الجرائم الإنسانية في دارفور، واليوم يتفاعلون مع حق الشعوب في المزيد من الديمقراطية والحريات... ولنا مثال في الدكتورة ابتهال الخطيب، التي تتهم اليوم، وياللعجب، بالطائفية لتضامنها مع المطالبات الإصلاحية في البحرين، بينما هوجمت بالأمس لأنها انتقدت «سيد المقاومة» الذي رفع شعار النصر الإلهي على جثث أطفال قانا، ولأنها دعت «للفصل بين القيادة السياسية والمقام الديني». ذلك الحزب الطائفي الذي أذكى نار الطائفية في مواقفه المتناقضة، يصمت صمت القبور عن قمع المظاهرات الشعبية في سورية، ويسكت عن إخراس المطالبات المشروعة في إيران بتعديل الدستور بحيث تُفصل المؤسسة الدينية عن الدولة. تلك الازدواجية والشيزوفرينيا يعانيها كذلك الطرف الآخر، ذلك لأن الذهنية العصبوية واحدة، ترفع شعارات دينية في السياسة وتتسلق عليها لتقيم حكماً ثيوقراطياً مستبداً، تتضح شواهد فشله في ترسيخ قيم المواطنة والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.

إن مرض الطائفية الذي ينخر مجتمعاتنا يتغذى على الانغلاق والاستبداد السياسي والديني... ولا دواء له إلا بفتح المجتمعات وفقء دماملها وتطهير جروحها عبر الديمقراطية الحقيقية التي لا تقوم لها قائمة إلا بانتهاج الدولة الحياد تجاه جميع المذاهب والأديان والتوجهات، ذلك الحياد الذي يقف على مسافة واحدة من الجميع، هو الكفيل بحفظ استقرار مجتمعاتنا وهو الضمان لترسيخ الدولة المدنية التي تكفل الحريات السياسية والدينية والمدنية، وهو الحماية الحقيقية للعيش المشترك ومشاركة الآخر حقه الوجودي والديني، الأمر الذي يكرس قيم العدالة الاجتماعية والمواطنة. تلك القيم التي من شأنها أن تنقلنا من المجتمعات العشائرية الطائفية البدائية إلى المجتمعات المواطنية الحديثة، هي ليست بقيم مثالية، بل واقع ملموس حققته مجتمعات العالم الحديث بعد أن سالت الدماء أنهاراً.

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة