إننا نمر الآن في أوج فترة من ازدهار الاقتصاد الشعبي: الكتب، والمقالات، والمدونات الإلكترونية، والمحاضرات العامة، التي يتابعها عامة الناس عن كثب.

Ad

ولقد شاركت أخيراً في حلقة نقاش لهذه الظاهرة في إطار الاجتماع السنوي للرابطة الاقتصادية الأميركية الذي استضافته مدينة دينفر، ولقد نشأ عن هذه المناقشة مفارقة واضحة: إن الطفرة التي يشهدها الاقتصاد الشعبي تأتي في وقت حيث يبدو الأمر وكأن عامة الناس فقدوا الثقة بأهل الاقتصاد المحترفين، وذلك لأننا فشلنا جميعنا تقريباً في توقع أو حتى التحذير من الأزمة الاقتصادية الحالية، التي تُعَد الأكبر منذ أزمة الكساد الأعظم في ثلاثينيات القرن العشرين.

لماذا إذن يشتري الجمهور المزيد من الكتب من تأليف اقتصاديين محترفين؟

كان التفسير الأكثر إثارة للاهتمام بين ما سمعته من تفسيرات أن الاقتصاد أصبح أكثر تشويقا، وذلك لأنه لم يعد يبدو وكأنه فرع مكتمل ومغلق من العلوم، فليس من الممتع أن تقرأ كتاباً أو مقالاً يقول إن التنبؤ الاقتصادي من الأفضل أن يُترك لنماذج الكمبيوتر التي قد تحتاج منك بوصفك قارئاً عاماً إلى الحصول على درجة دكتوراه في الاقتصاد قبل أن تتمكن من فهمها. والحق أن الجمهور على حق: فرغم أن هذه النماذج تستند إلى أسس علمية إلى حد ما، فإنها من الممكن أن تبلغ من الخطأ مبلغاً مذهلا، وفي بعض الأحيان قد نحتاج إلى إيقاف الطيار الآلي والتفكير بعقولنا، وحين تقع الأزمات نستعين بأفضل إنتاجنا الفكري البشري.

ولقد أكد كل المشاركين في حلقة النقاش، على نحو أو آخر، أن الاقتصاد الشعبي يعمل على تيسير نوع من التبادل بين خبراء الاقتصاد المتخصصين والناس عموما، وهو الحوار الذي لم يكن في أي وقت مضى أكثر أهمية من وقتنا الحاضر. ذلك أن فشل أغلب خبراء الاقتصاد في التنبؤ بقدوم هذه الأزمة يرجع جزئياً إلى إقصائهم لأنفسهم عن تفكير وتصرفات الناس في العالم الحقيقي. إن الاقتصاد الشعبي الناجح يأسر انتباه القارئ أو المستمع، ويحوله إلى طرف فاعل متعاون على نحو ما، وهذا يعني بطبيعة الحال أن خبراء الاقتصاد لابد أن يكونوا على استعداد لتقديم نظريات جديدة وأصيلة لا تشكل عقائد مسلماً بها بالفعل بين الخبراء المتخصصين.

وحتى وقت قريب، كان العديد من خبراء الاقتصاد المحترفين عازفين عن تأليف كتب شعبية، ولا شك أن ذلك ما كان ليصب في مصلحته في حالة الترشح لمنصب أو ترقية. فمادام الكتاب لا يحتوي على معادلات أو جداول إحصائية، فسوف يُقال إنه ليس بالعمل الجاد الذي يستحق الاهتمام العلمي. والأدهى من ذلك، حتى وقت قريب على الأقل، أن أي لجنة معنية بتقييم عمل أي خبير اقتصادي كانت ترى في الأرجح أن تأليف كتاب اقتصادي شعبي لا يؤكد الحكمة المنقولة في هذا الفرع من العلم أمر مناف للأخلاق المهنية.

ولنتخيل معاً كيف قد تنظر مهنة الطب إلى أحد أعضائها يوصي عامة الناس باستخدام علاج لم يخضع بعد للفحص والتدقيق من قِبَل السلطات المختصة. إن العاملين في مهنة الطب يعرفون كيف قد يثبت بعد الدراسة المتأنية في كثير من الأحيان أن العلاجات الجديدة الواعدة غير ناجحة في الحقيقة، أو حتى مضرة، وهناك عملية صارمة من المراجعة العلمية للعلاجات الجديدة المقترحة، ترتبط بالمجلات العلمية المتخصصة التي تحترم معايير علمية عالية. وعلى هذا فإن التحايل على هذه العملية والترويج لأفكار جديدة غير مختبرة بين عامة الناس يشكل تصرفاً منافياً للأخلاق المهنية.

في العقود السابقة للأزمة المالية الحالية، بدأ أهل الاقتصاد ينظرون إلى أنفسهم ومهنتهم تدريجياً على نفس النحو، بتشجيع من الاتجاهات البحثية. على سبيل المثال، بعد عام 1960، وحين بدأت جامعة شيكاغو بإنشاء شريط الكمبيوتر يونيفاك، الذي احتوى على معلومات منهجية عن الملايين من أسعار الأسهم، كان جانب عظيم من البحث العلمي حول خصائص أسعار الأسهم يُعَد بمنزلة الوسيلة للتأكيد على «فرضية كفاءة الأسواق». وكانت القوى التنافسية التي تشكل الأساس لأسواق الأوراق المالية يُنظَر إليها باعتبارها الوسيلة لإرغام أسعار الأسهم على العودة إلى قيمها الأساسية الحقيقية. وكل مخططات التداول التي لم تكن قائمة على هذا الفرضية كانت توصف إما بأنها مضللة وإما محض احتيال صريح. وانتصر العلم على نزعات أسواق رأس المال، أو هكذا بدا الأمر. لقد وجهت الأزمة المالية ضربة قاضية لتلك الثقة المفرطة بالاقتصاد العلمي، وليس الأمر أن المهنة لم تتوقع الأزمة فحسب، بل إن نماذج أهل المهنة كانت تشير في بعض الأحيان إذا أخُذَت حرفياً إلى أن أزمة بهذا الحجم من غير الممكن أن تحدث على الإطلاق.

ومن بين سبل تفسير هذا الأمر هو أن مهنة الاقتصاد لم تضع في حسبانها العنصر البشري في الاقتصاد، وهو العنصر الذي لا يمكن اختزاله في تحليل حسابي.

إن خبراء الاقتصاد المحترفين القليلين نسبياً الذين حذروا من الأزمة الحالية هم، كما يبدو، أناس لم يطلعوا على الأدب الاقتصادي العلمي فحسب، بل أيضاً أدخلوا في معادلاتهم قدراً أعظم من الاجتهاد الشخصي: المقارنات البديهية مع الوقائع التاريخية الماضية؛ والاستنتاجات بشأن المضاربات، وفقاعات الأسعار، واستقرار الثقة، وتقييم الدوافع الأخلاقية التي تحرك اللاعبين الاقتصاديين؛ والانطباعات التي تكونت بفعل الرضا عن الذات، والتي بثت الهدوء في المراقبين فاستسلموا للنوم.

إن هذه الاجتهادات كانت صادرة عن خبراء اقتصاد على دراية بزعاماتنا التجارية: أفكارهم، ومعتقداتهم، وحيلهم، ومسوغاتهم الفكرية، ولم يكن من الممكن تقديم وجهات نظرهم لأي مجلة علمية وتقييمها على النحو الذي يمكن به تقييم أي إجراء طبي جديد. فلا يوجد أي إجراء علمي ثابت قادر على إثبات صحة هذه الآراء أو عدم صحتها. إن الاقتصاد، من عدة نواح، علم بطبيعة الحال، ولا شك أن أعمال علمائنا ونماذجهم الحاسوبية تشكل أهمية حقا، ولكن على حد تعبير رجل الاقتصاد إدوين ر. أ. سليغمان في عام 1889: «فإن الاقتصاد علم اجتماعي، أي أنه علم اجتماعي، وبالتالي تاريخي... وهو ليس من علوم الطبيعة، وبالتالي فهو ليس علماً دقيقاً أو تجريدياً بحتا». وفي اعتقادي، واعتقاد غيري من المشاركين في حلقة النقاش بكل تأكيد، أن جزءاً من عملية ملاحقة الجوانب غير الدقيقة من الاقتصاد يتلخص في التحدث بصراحة وأمانة إلى عامة الناس، والنظر في أعينهم، والتعلم منهم، وقراءة رسائل البريد الإلكتروني التي يرسلونها، ثم المرء منا داخل روحه حتى يتسنى له أن يقرر ما إذا كانت نظريته المفضلة قريبة حقاً من الحقيقة.

* روبرت جيه. شيلر | Robert J. Shiller

أستاذ علوم الاقتصاد بجامعة يال، وكبير خبراء الاقتصاد لدى مركز أبحاث الأسواق الكلية (LLC).

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة».